لم یکن اسم قریة باریز معروفا قبل ستین عاما ، بل أن عدد الذین کانوا علی علم بوجود قریة صغیرة تابعة لمدینة سیرجان بمحافظة کرمان، لم یکن یتجاوز بضع مئات من سکان القریة والقری المجاورة؛ غیر أنه بفضل أحد أبناء القریة الذي قرر وضع اسم قریته بجانب اسمه العائلي، فقد نالت باریز شهرة عالمیة.
ولد محمد إبراهیم قبل 89 عاما في قریة باریز في أسرة دینیة حیث کان والده الحاج أخوند من رجال الدین، تلمذ محمد إبراهیم عنده مقدمات العلوم الدینیة بالتزامن مع دروسه بالمدرسة الابتدائیة الوحیدة في القریة؛ وقد اضطر إلی ترک المدرسة لمدة سنتین بسبب مرض والده ومن ثم ذهب إلی مدینة کرمان وبعد إنهاء دراسته الثانویة التحق بمعهد المعلمین الأولي حیث نال شهادة الدبلوم، أهله للتدریس في المدارس الابتدائیة (الإعدادیة).
وفي العام 1946 بعد الحرب العالمیة الثانیة وضع محمد إبراهیم لأول مرة في حیاته قدمیه علی أرض العاصمة طهران، وسرعان ما نجح في امتحان دخول کلیة الآداب بجامعة طهران فرع التاریخ. شاب من قریة بعیدة وجد نفسه فجأة في عاصمة کانت ملامحها تتغیر یوما بعد یوم، ونظرا إلی أنه کان یعیش في السکن الجامعي فإن الغربة لم تؤذه کثیرا حیث کان یقضي معظم وقته خارج الجامعة مع رفاقه في حلقات البحث الأدبي والشعر وهو نفسه کان شاعرا ذا إحساس لطیف ومن أشعاره في هذه الفترة:
أقولها بصراحة وأشعر بالفرحة / فأني صاحب القلب البسیط، أعیش في الحي الجامعي بأمیرأباد.
في العام 1950 وبعد أن نال شهادة اللیسانس عاد إلی کرمان حیث بدأ التدریس في إحدی الثانویات وبعد عام تزوج من حبیبة حائري التي أنجبت بنتا وولدا. وفي العام 1956 عاد إلی طهران لمواصلة دراسة الدکتوراه في التاریخ ونال الدکتوراه بإعداد رسالة علمیة عن ابن الأثیر.
من العام 1957 بدأ محمد إبراهیم عمله في جامعة طهران مدیرا داخلیا لمجلة کلیة الآداب، وصار أستاذا وأستاذا متمیزا بمرور السنین وحتی العام 2009 حین أحیل إلی التقاعد.
وأول مرة استفاد فیها من اسم قریته بعد اسمه العائلي کان في العام 1956 حیث نشر إحدی قصائده في مجلة کلیة الأداب تحت اسم محمد إبراهیم باستاني باریزي –إشارة إلی مسقط رأسه – ومع کل قصیدة نشرها وکل کتاب أصدره، ازدادت قریة باریز شهرة بدرجة، حینما زار الدکتور محمد إبراهیم باستاني باریزي، العاصمة الفرنسیة باریس أول مرة، أشار في الخطاب الذي ألقاه بجامعة سوربون إلی أنه کان دائما یحلم بزیارة باریس بنهرها وقصورها ومتحفها اللوفر وکنیستها نوتردام وحدیقة لوکسومبورغ والحي اللاتیني ومونبارناس، وها هوالیوم في باریس حیث تحقق حلمه، وأضاف قائلا، أود أن أکشف سرا لکم، أنا ابن قریة صغیرة اسمها باریز، اسم قریب من اسم عاصمتکم باریس الراقیة العظیمة، ولکن الفارق بینهما، فرق بین النمل والفیل ورغم ذلک فإني أحب قریتي ولو خیرني الله أن أختار إحداهما لقضاء باقي أیام حیاتي فلن أتردد في اختیار باریز ولیس باریس .
لقد ابتدع باستاني باریزي أسلوبا متمیزا في کتبه التاریخیة وأبحاثه حیث بدا راویاً، ینقل لک الأحداث التاریخیة کأنه کان شاهدا علیها وبهذا الأسلوب، تمکن باستاني باریزي من زرع حب التاریخ والاهتمام بالماضي لاضاءة المستقبل في قلوب الآلاف من قراءه وتلامذته ممن تعلموا منه، إن التاریخ لیس شرح الحروب والنزاعات وأحوال الملوک، بل التأمل في متاعب الإنسان وانجازاته ومواجهته مع الأحزان والأفراح علی طول القرون، التاریخ هو روایة الحب والعرفان بجمیل الإنسانیة والتحرر …
أول کتاب تحقیقي أصدره باستاني باریزي کان یدعی «نبي اللصوص» وهو شرح أحوال سارق في کرمان أطلق علی نفسه لقب نبي اللصوص وکان غریب الأطوار حیث کان سرق من الأثریاء لیوزع المال المسروق بین الفقراء الذین بنوا له ضریحا حینما مات وصار ضریحه علی طول السنین، بقعة مقدسة عند عوام الناس . وبصدور أول مجموعة شعریة له، تبین أنه صاحب ذوق رفیع وإحساس لطیف، ومن قصائده المعروفة:
یذکر اللیلة التي کانت فیها الریح تلقی الزهور علی رؤوسنا
رأسک کان علی صدري وزهرة اللوز کانت تسقط علی وجهک
ألا تتذکر تلک اللیلة التي کانت الزهور تتساقط مع المطر ومن الشجر والقمر…
معظم کتب باستاني باریزي طبع مرات ومرات، مثل زقاق سبع دوار، وخاتون سبع قلاع، وتحت السماء السابعة … ومن أبحاثه التاریخیة، مصادر تاریخ کرمان، السلجقة والغزان في کرمان، مرشد معالم کرمان التاریخیة، القادة الکرمانیون، جغرافیا الکرمان، تاریخ سلالة قراختائیان، صحیفة الإرشاد، غنجعلي خان و ….
ومن مؤلفاته عن المشاهیر، المحیط السیاسي وقصة حیاة مشیرالدولة –یعقوب لیث الصفاري ( صدرت الترجمة العربیة لهذا الکتاب في القاهرة عام 1976 )
وقد ترجم باستاني باریزي عشرات الکتب من الفرنسیة والعربیة إلی اللغة الفارسیة من أهمها، أصول الحکم في أثینا بقلم لأرسطو، مساعي الحریة، الذي نال جائزة الیونسکو، حماسة الصحراء و ….
قبل وفاة الأستاذ الدکتور محمد إبراهیم باستاني باریزي في الثالث من أیام عید النوروز الأخیر، بشهرین، بلغني الزمیل والصدیق العزیز مسعود بهنود الذي یتحمل مثلي معاناة المنفی، أن الأستاذ في رسالة إلکترونیة أرسلها إلیه، سأل عني ومبدیا إعجابه بنشرتنا المتواضعة «الموجز» وبرامج قناتنا التلفزیونیة الفارسیة «إیران فردا».
ومن أسباب عدم اتصالي بالعدید من أساتذتي ورفاقي وزملائي في إیران خوفي علیهم وقلقي مما قد یحدث لهم بعد الاتصال حیث، تعتبر استخبارات الولي الفقیه أیة مکالمة معي سواءً کان سببها اظهار المودة والاحترام أو البحث عن حال قریب أو صدیق، جریمة نکراء ومؤامرة لقلب نظام ولایة الفقیه . ولهذه الأسباب لم أتصل بالأستاذ باستاني باریزي منذ مدة طویلة وهذه المرة اتصلت خاصة وعلمت بأنه مریض .
لقد أبدی الرجل الذي علمني کثیرا فرحته بسماع صوتي وقال بمنتهي الحب، أعتز بکم وبما تفعلون، ورغم مرضي أتابع برامجکم التلفزیونیة دائما وأقرأ کتاباتک وأدعو الله لیحمیکم دائما.
هکذا کرمني الأستاذ مرة أخری بلطفه وعواطفه البالغة قبل أن یفصلنا رحیله للأبد . لقد خسرت إیران بانتقال الأستاذ الدکتور محمد ابراهیم باستاني باریزي أحد أبرز مؤرخیها وکتابها وشعرائها وأساتذتها الذي ترک وراءه 400 کتاب وتحقیق ودیوان شعر وترجمة، والعیون الباکیة للآلاف من تلامذته ومحبیه في إیران و أفغانستان وطاجیکستان و …..
*جزء من مقال رئیس التحریر في رثاء الأستاذ.