سيرة الفنان العراقي الراحل ناظم الغزالي
كتابة الفنان شكر مرزوك العبيدي
شاب وسيم الطلعة ، عفيف النفس، رقيق الكلمة، حلو الابتسامة، لا يرد طالبه ولا يغتاب صاحبه، قليل الكلام كثيرالتأمل.. يزور زملاءه دائما، حاملا لهم الهدايا، ويتفقد مرضاهم كلما سنحت له الفرصة.. جم الاحترام لهم، و بالأخص لأستاذه الكبير مطرب العراق الأول خالد الذكر محمد القبنجي.. وكثير الاحترام والاهتمام بالفرقة الموسيقية التي ترافقه في العزف أثناء الغناء، يناديهم دائما (يا أساتذتي)، ويعتبر نفسه احد طلابهم.
يظهر الخجل واضحا على وجهه عندما تتحدث معه سيدة أو فتاة خلال الحفلات العامة والخاصة. له القدرة الفنية في الغناء والتحكم في الأداء والوقوف بشجاعة أمام الجمهور سواء على المسرح في الحفلات أو في الحفلات الخاصة. لايخلو مجلسه من الأدباء والشعراء والفنانين، لذا استقطب حب الجماهير العربية له..ناظم الغزالي ولد من عائلة فقيرة.. أب كادح، وأم كفيفة البصر، تكفله عمه وجيرانه.. أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة ودخل معهد الفنون الجميلة قسم المسرح بإشراف الفنان الكبير الراحل حقي الشبلي، الذي احتضنه خلال دراسته في المعهد، لما رأى فيه من قدرة وطاقة في مجال التمثيل.
غير أن الفنان ناظم الغزالي لم يستمر في دراسته بمعهد الفنون، وذلك لضيق ــــ ذات اليد ــــ فطرق باب الوظيفة وعين مراقبا في مشروع الطحين بأمانةالعاصمة في أوائل الأربعينيات.
كان ناظم الغزالي مستمعا جيدا إلى جميع فنون الغناء العربي، ولاسيما في فترة الأربعينيات والخمسينيات، إذ كانتهذه الفترة زاخرة بالأصوات والأغاني العربية الجميلة لكبار المطربين والمطربات أمثال سيدة الغناء العربي أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب والموسيقار فريد الأطرش والمطربة أسمهان والمطربة ليلى مراد والمطربة نجاة علي..وغيرهم.
وحين عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته اخذ بيده ثانية عميد المسرح العراقي حقيالشبلي، الذي ضمه إلى فرقة (الزبانية) للتمثيل وأشركه في المسرحيات الدرامية والكوميدية، ومنها مسرحية (مجنون ليلى) لأمير الشعراء احمد شوقي. وقد لحن له حقي الشبلي أول أغنية، وهي عبارة عن مقطوعة يؤديها في
المسرحية بعنوان (هلا هلا)، وهي من مقام الهزام.
لم يستمر نظام الغزالي في مسيرته المسرحية مع فرقة ـــ الزبانية ـــ طويلا، اذ سرعان ما غير شراع سفينته لترسو في ميناء الغناء وبعد أغنيته الأولى (هلا هلا) التي دخل بها إلى الإذاعة، أردفها بأغنية ثانية لحنها له الفنان وديع
خونده، كان لها الصدى الجميل كسابقتها، ويقول مطلعها:وين الكه الراح مني وأنا المضيع ذهب راحت السله من إيدي وراح وياها العنبومن خلال هاتين الأغنيتين الجميلتين سلطت أضواء الشهرة على المطرب ناظم الغزالي..وبين عامي 1947 ـ ــ 1948 دخل ضمن أعضاء فرقة الموشحات التي يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي
الدرويش والتي تضم بعض المطربات والمطربين.
وفي صيف عام 1948 كانت أول سفرة لناظم الغزالي خارج العراق مع الوفد الفني للترفيه عن الجيش العراقيالمتواجد في أرض فلسطين للدفاع عنها ضد العدو الصهيوني المحتل. وكان لهذا المطرب المتألق في فلسطين صدى في دول عربية أخرى مثل سوريا ولبنان وسعت من شهرته ومكانته على الساحة العربية..وعند عودته إلى بغداد ثابر الفنان ناظم الغزالي في تعميق ثقافته الموسيقية بالدراسة تارة والاستماع تارة أخرى..وهكذا فتح ناظم صفحة جديدة مشرقة في حياته الغنائية فتتلمذ على يد أستاذه محمد القبنجي فيما يخص المقامالعراقي وأصول غنائه وتتلمذ على يد الموسيقار روحي الخماش في دراسة العود، وعلى يد جميل سليم دراسة(الصولفيج) وتعلم النوتة الموسيقية وتدوين ما أمكن تدوينه من الأغاني التراثية.
و لفرط عشقه لصوت المطربة سليمة مراد التي كانت تمتلك صوتا ساحرا وقابلية هائلة في أداء الأغاني التراثية، اقترنبها الفنان ناظم الغزالي.. ومن خلال زوجته سليمة مراد استطاع التعرف على الطبقة الأرستقراطية في ذلك الوقتوعشاق الحفلات والغناء.. فكان الثنائي الغنائي المحبوب والمتألق دائما في جميع الحفلات العامة والخاصة وأصبحبيتها صالونا أدبيا يؤمه الشعراء والأدباء والفنانون.
في منتصف الخمسينيات عمدت شركة (جقماقجي) إلى تسجيل اسطوانات لكبار المطربين والمطربات العراقيين وكان على رأس القائمة المطرب ناظم الغزالي فتم الاتفاق بينه وبين الشركة.. وهنا لابد من الإشارة إلى الذكاء العالي الذي كان الفنان ناظم الغزالي يتمتع به من خلال اختياره الدقيق في الاستعانة بالموسيقيين الموهوبين وانتدابه للعازفين المهرة في فرقته الموسيقية بالإضافة إلى فرقة الكورس المنسجمة الأصوات وتعامله مع ملحنين وشعراء يمتلكون آفاقا رحبة في الإبداع والتجديد وما ان ظهرت الوجبة الأولى من هذه الاسطوانات حتى تلقفتها أسماع المعجبين بشوق وغبطة ومن هذه الأغاني (طالعة من بيت ابوها) و(ماريده الغلوبي) و( احبك) و(فوق النخل فوق) و(يم العيون السود)..
وغيرها من ألاغاني التراثية الملحنة من قبل الفنان القدير ناظم نعيم ومن نظم الشاعر المجددجبوري النجار والتوزيع الموسيقي لهذه الأغاني للأستاذ الموسيقار جميل بشير..
وهكذا اخذ سطوع هذا النجم يسطع في سماء الغناء ويزداد توهجا يوما بعد يوم.. حتى ملأ الآفاق العربية أو بلغ أسماع عمالقة الغناء العربي الذين أشادوا بقدرته الغنائية وجمالية صوته وحسن أداءه مما حفز موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب أن يبدي رغبته في التلحين للمطرب ناظم الغزالي.. ويطلب من شركة -كايرفون – ان تسجل بعض أغاني ناظم الغزالي على أن يضع محمد عبد الوهاب الإطار الموسيقي لهذه الأغاني.. وقد نقل هذه الرغبة الموسيقار سالم حسين المقيم في القاهرة آنذاك إلى الفنان ناظم الغزالي وكانت فرحته لا توصف بهذا الخبر..
وقد تم الاتفاق على ذلك صيف 1961..كان تلفزيون بغداد في بداياته يفتقر إلى استديو منتظم وإنارة كافية وديكورات وإكسسوارات وأجهزة متطورة يحتاجها كل استديو تلفزيوني.. كان الصرف المادي للفنانين العاملين فيه قليلا جدا.. فكانت الحفلات الغنائية تظهر كما هيبدون تزويق او زينة او ديكور يجلب النظر.. غير أن المطرب ناظم الغزالي كان يستعد لحفلاته الأسبوعية علاوة على استعداده فنيا وموسيقيا وغنائيا.. كان يذهب إلى الأسواق ليشتري على حسابه الخاص اللباس و(الهندام) الأنيق ويوحد الذي الذي يرافقه في العزف ويساهم في إعداد الديكور وجلب أشرطة الزينة والزهور ليشرف على وضعها مع المخرج التلفزيوني لحفلته الغنائية..
أما أجور الحفلة فلا تسد عشر ما ينفقه على حفلته.. وما تنطوي عليه نفسه من رهافة حس وسخاء جعله يوزع الهدايا على من يعملون معه من عازفين ومخرجين ومهندسين وعاملين سواء في الإذاعة أو التلفزيون.
وديع الصافي يخشى ناظم الغزالي وفي الأشهر الأولى من عام 1963 تلقى نظام الغزالي دعوة من وزارة الإعلام في الكويت على أن يقوم بإحياء حفلات غنائية هناك مع مجموعة من نجوم الغناء العربي آنذاك فاستعد استعدادا كبيرا منالناحية الفنية والأغاني وتهيئة الشعر والمقدمات الموسيقية .
وفي الليلة الأولى من الاحتفال كان موعد ظهورالمطرب ناظم الغزالي في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، واستقبل الجمهور ناظم بترحاب وحماس كبيرين ورغم التزام المطرب ناظم بالوقت المحدد له إلا أن الجماهير المتعطشة لغنائه تطلب المزيد من الوقت وعند مغادرة المسرح غادر اغلب الجمهور قاعة الاحتفال الذي أقيم على مسرح سينما الأندلس ولم يبق في القاعة إلا نفر قليل من محبي غناء المطربة نجاة الصغيرة والمطرب الكبير وديع الصافي و غيرهما من عمالقة الغناء العربي.
وفي ظهر اليوم الثاني التقى المطرب الكبير وديع الصافي بسالم حسين عازف القانون ورئيس الفرقة الموسيقية المصاحبة للفنان ناظمالغزالي.. وطلب منه أن يؤجل ناظم الغزالي وصلته الغنائية لتكون ختام الحفل!!.
وما احل المساء وبدأت الحفلة وتعدى الوقت منتصف الليل أخذت الجماهير تنادي بصوت عال ناظم الغزالي.. ناظم الغزالي مما حمل عازف القانون الفنان سالم حسين أن يظهر على المسرح ويطمئن الجمهور بأن المطرب ناظم الغزالي سيأخذ دوره بعد الفقرة المقبلةليتسنى للجمهور الحاضر أن يستمتع بصوته أطول فترة ممكنة..
وهنا هدأت ثورة الحاضرين.. وما إن حان وقت المطرب ناظم حتى دوت القاعة بالتصفيق والتشوق الحار لسماعه.. واستمر الغزالي بالغناء والجماهير تطلب المزيد حتى انبلاج الصباح.. لما رأت وزارة الإعلام تعلق الجماهير بناظم الغزالي طلب منه وزير الإعلام آنذاك أن يمكث في الكويت لتسجيل بعض أغانيه ومقاماته للإذاعة والتلفزيون واستغرق ذلك عشرين يوما.. وفي هذه الأثناء جاء صاحب فندق (طانيوس عاليه) في لبنان المتواجد في الكويت طالبا منه التعاقد لإحياء عدة حفلات خلال الصيف في لبنان..
وقد تكللت حفلاته بالنجاح والشهرة الواسعة المدى حتى أطلق على ذلك الموسم السياحي بموسم ناظم الغزالي وكانالمستمعون يخرجون إلى الشارع وهم يرددون أغاني ناظم الغزالي.
هكذا كان ناظم الغزالي في لبنان كما هو في الكويت أو أي قطر عربي آخر.. وبعد أن غادر لبنان ذهب بجولة فنية أخيرة إلى أوروبا بسيارته الخاصة ترافقه زوجته المطربة الكبيرة سليمة مراد.. فكانت الدعوات والحفلات في كل عاصمة أوروبية.. وكانت الإذاعات العربية المتواجدة في أوروبا تسعى لإجراء المقابلات واللقاءات الإذاعية.
وبعد عودة الفنان ناظم الغزالي من أوروبا مكث في لبنان بعض الوقت للراحة والاستجمام، ونزل في فندق ـــ نورماندي ـــ بالزيتونة على البحر في بيروت.. وفضلت زوجته سليمة مراد المجيء إلى بغداد بالطائرة لأنها تشعر بتعب شديد.
وفي صبيحة يوم 20/10/1963 الساعة الخامسة والنصف صباحاً تحرك ناظم الغزالي وهو يقود سيارته بصحبة سالم حسين فوصل إلى بغداد الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إذ انه لا يميل إلى السرعة في قيادة السيارة.. وذهب كل واحد منهما إلى داره.. وفي الساعة العاشرة والنصف من يوم21/10/63 توقف نبض الغزالي ووفاه الأجل وسط دهشة واستغراب جمهوره ومحبيه الذين شيعوه بعيون تقطر أسى واستفهاما لرحيله المفاجىء!! وهو لم يتجاوز الـــ (42) سنة من عمره وكان في قمة نضجه وفي كامل حيويته ونشاطه
–