ريمسكي كورساكوف عبقرية تبحث عن النغم في أساطير الشرق
“شهرزاد” الروسي
ريمسكي كورساكوف بريشة فالنتاين ألكسندروفيتش
هذا هو مؤلف سيمفونية “شهرزاد”، أحد أعذب المؤلفات في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. والواقع ان إنجاز هذا الروسي عمل مستوحى من أغلى كنوز التراث الأدبي الشرقي “ألف ليلية وليلة”، لم يكن مجرد افتتان بسحر الشرق، وإنما كان ايضا قرارا “آيدلوجيا” متعمدا سنأتي إليه خلال التعريف بهذا المؤلف والمنظّر الموسيقي الذي أوتي موهبة فذة في التوزيع والهارموني بشكل خاص. ولد نيكولاي ريمسكي ـ كورساكوف في 18 مارس (آذار) 1844 لأسرة ارستقراطية في تيخفين، الى الشرق من سنت بيترسبرغ. ومنذ طفولته أبدى موهبة موسيقية واضحة بتعلمه العزف على البيانو. وكانت رغبته في صباه اتباع هذا الخط واحتراف التأليف الموسيقي. لكن أسرته كانت ترى في احترافه هذا الفن تقليلا لمكانتها الاجتماعية. وتحت ضغط أبويه التحق بكلية الرياضيات والملاحة في سنت بيترسبرغ ومنها الى الأسطول الامبراطوري الروسي.
كان ذلك فقط إرضاء لأبويه لأنه لم يتخل عن دراساته الموسيقية على البيانو، التي تلقاها على يد معلم يدعى يوليخ وجد فيه موهبة غير عادية.
وبعد حين عهد به الى من هو أعلم منه وهو تيودور كاني الذي عرّفه بتيارات موسيقية جديدة بما فيها مؤلفات ميخائيل غلينكا وروبرت شومان. على أن أخاه، الذي كان أيضا ضابطا بحريا ومسؤولا عن شؤونه المالية أوقف دروسه الموسيقية.
لكن هذا لم يمنع كاني من استضافة تلميذه في عطلة نهاية الأسبوع، ليس لدروس رسمية وإنما للعزف الثنائي والنقاش. ولما أيقن من حماسته للحوار وتعطشه للمعرفة قدّمه إلى المؤلف ميلي بالاكيريف في ما أثبت انه أهم منعطف موسيقي في حياته.
لم يكتف بالاكيريف بتعليم ريمسكي ـ كورساكوف وتشجيعه على التأليف الموسيقي، بل حثه بشدة على إثراء نفسه في مجالات أخرى. ويقول هذا التلميذ في معرض عرفانه: “سمعت منه للمرة الأولى في حياتي أن على الإنسان ألا ينقطع عن القراءة والتحصيل… أن يتولى تعليم نفسه بنفسه… أن يسعى لدراسة التاريخ والأدب السياسي والنقد وغيرها من مختلف تيارات المعرفة. ولكل ذلك فله مني الشكر والعرفان”.
جماعة «الخمسة»
عبر بالاكيريف، تعرّف ريمسكي ـ كورساكوف على ثلاثة موسيقيين هم الكسندر بورودين وموديست موسورسكي وسيزار كوي. وشكل هؤلاء الرجال الخمسة مجموعة “الحفنة الجبارة” التي عرفت خارج روسيا باسم “الخمسة”.
كان هدف هذه المجموعة من الموسيقيين ـ المنظرين، الذين تزعمهم بالاكيريف، هو تأليف موسيقى “روسية” بدلا من تقليد الموسيقى الأوروبية والتقيد بتعاليم الكونسرفتوار الغربي. وهكذا صارت الجماعة على نحو ما جزءا مما يسمى “الحركة الرومانسية الوطنية الروسية”. التي سعت لإحياء التراث الروسي (الشرقي) في مواجهة التيارات الفكرية والفنية الغربية.
وتمثل أحد أكبر الأعمدة التي شيدت عليها جماعة “الخمسة” بنيانها الفكري في “انتماء روسيا للشرق”. وهكذا تبنت الثقافة الشرقية وتراثها الموسيقي من أجل “تمييز الموسيقى الروسية الأصيلة عن أعمال مؤلفين روس سقطوا في براثن الموسيقى الألمانية مثل أنتون روبنشتاين وتلميذه النجيب بيتر ايليتش تشايكوفسكي”، كما قال زعيم الجماعة بالاكيريف.
ولما ألّف ريمسكي ـ كورساكوف سيمفونيته الأولى اعتبرتها الجماعة “أول سيمفونية روسية”. وكتب اليه سيزار كوي قائلا: “هذه موسيقى روسية حتى النخاع ولا يمكن لمؤلفها إلا أن يكون روسيا. فلا رائحة فيها لأي أثر ألماني أو غربي راكد. لقد أنجزت السيمفونية الروسية الأولى”. وكان هذا التأكيد على أهمية الهوية الروسية هو الذي حدا بريمسكي ـ كورساكوف في العام 1888 لترجمة “ألف ليلة وليلة” الى رائعته “شهرزاد” التي تصبح بذلك نتاجا مباشرا لفلسفة جماعة “الخمسة”.
شهرزاد… السيمفونية
أكد ريمسكي ـ كورساكوف في اختياره للآلات الرئيسية لهذا العمل مكانته، التي طغت على سمعته كمؤلف، وهي انه أحد أمهر الموزعين في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. وعمل مثل “شهرزاد” لا يستطيع الوقوف على قدميه الا إذا كان متشربا روح الشرق. ولهذا اختار المؤلف لسرده الموسيقي هذا الكمان المنفرد بمتابعة الهارب (صوت شهرزاد) إضافة الى عائلة المزامير: زوج من الفلوت وزوج من البيكولو (الفلوت الصغير) وزوج من الأوبوا وآخر من الكلارينيت… وكل هذا للتأكيد على جغرافية المكان لأن هذه الآلات جميعها تصب في خانة الناي الشرقي.
ثم اختار الآلات النحاسية لتصوير غضب شهريار ولتكثيف الدراما التي تنسجها شهرزاد في حكاياتها الفنتازية التي أبقت على حياتها ألف ليلة وليلة قبل أن ينسى شهريار غضبه وقراره إعدام زوجته هذه في ختام سعيد لأروع القصص. ثم وضع الكمان والمزامير والنحاس في إطارها الطبيعي الكبير المتمثل في الأوركسترا الوترية.
والسيفونية تتألف من أربع حركات عرفت بأسمائها الأصلية. ويذكر أن ريمسكي ـ كورساكوف حاول عبثا في ما بعد إزالة هذه الأسماء طلبا للحكم على مؤلفه كعمل موسيقي قائم بذاته وليس ترجمة نغمية لقصة معروفة. والحركات الأربع هي:
الأولى: “البحر وسفينة سندباد”. تفتتحها الأبواق النحاسية تصويرا لغضب شهريار وهياجه وطلبه عنق شهرزاد. ثم يترك النحاس الساحة للكمان والهارب إيذانا ببدء شهرزاد مشوار خلاصها الطويل.
الثانية: “أمير القبيلة” التي تتبع فيها المزامير السلالم الموسيقية الشرقية لتصوير غموض الشرق وسحره.
الثالثة: “الأميرة الفتيّة والأمير الفتي”، وهي قصة الحب الرئيسية في السيمفونية ولذا تعين أن تكون أعذب الحركات الأربع بلحن شجي تغلب عليه الأوركسترا الوترية.
الرابعة: “احتفال بغداد. البحر. تحطم السفينة. الخاتمة”، إيقاع متسارع عبارة عن شد وجذب بين آلات النحاس من جهة والكمان المنفرد والهارب من الأخرى. النحاس في مطلع الحركة يصور نفاد صبر شهريار وطلبه معرفة نهاية القصة ويمضي لتصوير هياج البحر وتحطم السفينة. يعود الكمان المفرد و”يحكي” ويختتم السيمفونية النحاس مجددا ولكن في تناغم حنين مع الكمان فكأنه امتداد له… فندرك، نحن السامعين، مغزى هذا التناغم.
أعمال أخرى
بعد تقاعده من البحرية العام 1873 عين ريمسكي ـ كورساكوف مفتشا للفرق الموسيقية في الاسطول الامبراطوري وفي الوقت نفسه بروفيسيرا للتأليف التطبيقي والتوزيع الموسيقي في كونسرفتوار سنت بيترسبرغ (المسمي الآن باسمه). ومن 1886 إلى 1890 قاد أوركسترا المدينة السيمفونية وأكمل العمل في أوبرا “الأمير ايغور” التي بدأ تأليفها زميله في جماعة “الخمسة” الكسندر بورودين وحالت وفاته دون إتمامها.
ومن أهم مؤلفاته ـ إضافة الى “شهرزاد” ـ عملان أوبراليان هما “صبية الثلج” و”الديك الذهبي” وسيمفونيتا “عيد الفصح الروسي” و”كابريشيو اسبانيول” وعدد من أعمال كونشيرتو البيانو ومقطوعات من موسيقى الصالونات، إضافة الى توزيعه أو إكماله أو تأويله عددا من مؤلفات موسيقيين آخرين. وهي أعمال أنجزها في الفترة من 1882 الى وفاته في 21 يونيو (حزيران) 1908، بعد حياة حافلة لخصها في كتاب سيرته الذاتية “حياتي الموسيقية” الذي نُشر بعد مماته بسنة.
كما أبدع كورساكوف اوبرا اطلق عليها تسمية “سادكو” نسبة الى أحد أبطال الأساطير الروسية القديمة. واستوحى الموسيقي عند تأليفه لهذه الاوبرا ذكرياته عن رحلته البحرية الأخيرة. وتتصف هذه الفترة بولع ريمسكي ـ كورساكوف بمواضيع الفولكلور. وخطرت بباله بعدئذ فكرة تأليف قصيدة سيمفونية تستوحى فكرتها من الحكايات الشرقية. واستعان ريمسكي كورساكوف بحكاية بقلم المستعرب المعروف آنذاك سينكيفيتش اسمها “عنترة”. فاطلق هذا الاسم على سيمفونيته.
وفي صيف عام 1869 بدأ ريمسكي ـ كورساكوف في تأليف أوبرا “بسكوفيتيانكا” اي “فتاة من اهالي مدينة بسكوف” وذلك بطلب من زميليه بالاكيريف وموسورغسكي اللذين اختارا مسرحية الكاتب ماي اساسا لنص الحوار في الاوبرا. ونصحا ريمسكي ـ كورساكوف بتأليف الاوبرا بناء عليه. واستغرق العمل في تأليفها 4 سنوات. فتم العرض الاول للاوبرا في ينايرعام 1873 الذي صادف زواج ريمسكي كورساكوف من ناديجدا بورغولد احدى الفتيات التي كانت تعمل في أمانة جماعة “الخمسة الكبار”.
وابتداء من عام 1871 باشر ريمسكي كورساكوف بتدريس الموسيقى في كونسرفتوار موسكو. ولم يفارقه الوحي. فعكف على إبداع اوبرا جديدة واختار حوارا لها قصة بقلم غوغول “امسيات في مزرعة ديكانكا” وأطلق عليها تسمية “ليلة في شهر أيار” واستوحى الموسيقى من أجواء اوكرانيا وألحانها الجذابة واغنيات شعبها. وحاول ريمسكي كورساكوف لدى كتابة نص الحوار في الاوبرا الحفاظ على بنية قصة غوغول وشاعريتها.
أما اوبرا “سنيغوروتشكا” اي “اميرة الثلج” التي عرضت في مطلع عام 1882 في جو احتفالي، فقد لقيت اقبالا كبيرا لدى جمهور بطرسبورغ. وارتدى المغنون والمغنيات ملابس تعكس روح الطقوس الوثنية. وتسود في العرض أميرة الثلج التي تبدو باردة أولا، ثم تتحول الى بطلة تشع منها نار العشق.
وفي عام 1894 عاد ريمسكي كورساكوف الى قصص نيقولاي غوغول فألف الاوبرا الثانية التي شكلت قصة غوغول “ليلة عيد الميلاد” أساس نص الحوار فيها.
وتعتبر اوبرا “عروس القيصر” التي كتبها الموسيقي عام 1898 من اكثر مؤلفاته شاعرية. وأعقبتها الحكايات الموسيقية الأخرى مثل “حكاية القيصر سلطان” في عام 1900 التي صادف عرضها في الذكرى المئوية لميلاد بوشكين، و”الديك الذهبي” التي تعتبر عرضا موسيقيا ساخرا موجها ضد النظام القيصري وردا على النزعة الرجعية السائدة في أوساط المثقفين الروس في فترة ما بعد ثورة اعوام 1905 ـ 1907. ولم يتم عرضها الا عام 1909 بعد وفاة الموسيقي.
توفى نيقولاي ريمسكي كورساكوف في 21 يونيو 1908 تاركا بعد موته تراثا موسيقيا ثريا، ومنه 15 أوبرا وبضعة مؤلفات سيمفونية وعشرات الأغنيات الرومانسية.
نقلاً عن الاتحاد