ترسل موسكو من خلال منابرها وصحافتها إشاراتِ امتعاض من سلوك النظام السوري. بعض الأصوات الروسية تفتح ملفات الفساد والإثراء المفرط. وبعضها الآخر يلمح إلى أن روسيا ذاهبة للحسم حتى لو كان أمر ذلك سيطيح برأس النظام في دمشق.
بقي هذا الكلام تلميحاً لم تؤيده المصادر الرسمية، لا بل أن عديدا من تلك المنابر سحبت لاحقا مواد مسيئة وناقدة لنظام دمشق. وطالما أن الأعراض لم تصدر عن مقربين من الكرملين فإن الأمر بقي رهن التكهنات. ومع ذلك فإن ما أُطلق من موسكو من غمز من قناة دمشق ليس تفصيلا هامشيا، بل يتأسس على تحول براغماتي رشيق في تعامل موسكو مع مفاتيح التسوية السورية المتوخاة.
بالمقابل راقبت واشنطن باهتمام تقارير موسكو، لكنها عبرت من خلال منابرها أيضا عن عدم اقتناعها بأن الرئيس الروسي سحب رعايته للرئيس السوري، لا بل أن التفسيراتِ الغربية وضعت الأمر في خانة بازارٍ تطرح فيه روسيا بضاعتها. وإذا ما كان الكرملين قد أجاز فتح السوق فإن ذلك دليل حاجة ملحة لدى روسيا، على وقع انهيار مداخيلها النفطية، على قبض أثمان استثمارها داخل سوريا منذ الانخراط العسكري المباشر في اكتوبر من عام 2015.
وأيا كانت دقة التحليلات فإن وراء الغبار ورشة حقيقية تعيد فتحَ ملف سوريا وتضعه على طاولة التسويات الكبرى، على ما تسرب من تقارير تحدثت عن تفاهمات روسية أميركية إسرائيلية للعمل سويا ضد الوجود الإيراني شرق سوريا. في هذا هدفٌ قديم جديد يمنع طهران من شق ممرها الطموح صوب بيروت.
وفيما كلام العواصم يشي بالحاجة إلى وضع حدّ للكارثة السورية من ضمن خطط لترتيب ملفاتِ المنطقة، فإن السجال الذي فجره رامي مخلوف ابن خال الأسد يميط اللثامَ عن مخاض داخلي على أعلى المستويات يجري بين الأذرع التي يتشكل منها النظام في سوريا.
ما تسرّبَ من موسكو يوحي بأن الكرملين يُبلغ العالم بجاهزيته للتسويات الكبرى. لن يتخلى بوتين عن بشار الأسد ولن يتخلى عن حلفائه الإيرانيين في سوريا وهو متحالف مع تركيا، وأي تبدل في قواعد اللعبة يتطلب ضمانات غربية تفرج عن أموال إعادة الأعمار الممنوعة عن سوريا، والتي تشترط اقتناع العالم أن البلد دخل جديا مرحلة التسوية السياسية الداخلية النهائية.
ولا يخرج أمر ترتيب البيت السوري عما تعمل عليه الغرف الدولية والإقليمية لترتيب أمر منطقة تمددَ داخلها النفوذ الإيراني على نحو أباح لطهران التبجح بسيطرتها على أربع عواصم عربية. بيد أن الثابت أن روسيا لن تنخرط بأي جهد كامل لإزاحة إيران عن الخارطة السورية وليس لها مصلحة في ذلك.
تحتاج روسيا إلى تحالفها مع إيران إقليميا لما في ذلك من منفعة اقتصادية مباشرة وواعدة داخل السوق الإيراني. ولا تود موسكو أن تخسر ما يمكن للغرب أن يكسبه من أي اتفاق جديد محتمل بين واشنطن وطهران. وتحتاج روسيا لإيران في الميدان السوري نفسه نظراً لما تمتلكه طهران من قوى على الأرض تسند الجهد الذي تبذله طهران في الجو السوري.
والمفارقة أن التحالف الروسي الإيراني لم يتأثر بحقيقة التواطؤ الواضح لموسكو في تسهيل ومواكبة العمليات العسكرية الإسرائيلية التي لا تنتهي ضد البنى التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا. يوحي الأمر أن الاتفاق في هذا الشأن بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تأسس منذ اللحظة الأولى على تفاهمات على قواعد اللعبة في سوريا بين موسكو وطهران وعلى أعلى المستويات.
يدرك بوتين أن واشنطن وطهران ذاهبتان إلى اتفاق حتى لو أعيد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة في نوفمبر المقبل. يقرأ الرجل جيدا أعراض تبريد الجبهات بينهما على النحو الذي سهّل ولادة حكومة مصطفى الكاظمي في العراق، وأملى قرار سحب بطاريات لصواريخ باتريوت من الخليج، وأوحى للمرشد الإيراني علي خامنئي تسليط الضوء على خصال الإمام الحسن في جنوحه نحو التسويات الشجاعة.
على هذا فإن إعادة الاهتمام بالخريطة السورية دوليا، وخصوصا أميركيا، وتركيز وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على وجوب مغادرة إيران لسوريا يؤكد ما هو ثابت في أي اتفاق مقبل مع إيران حتى لو اقتضى الأمر حروبا جديدة. تبلغ واشنطن موسكو أيضا بهذا الثابت والذي بناء عليه يفترض على الكرملين بناء التسوية التي يريدها العالم والتي تتجاوز أعراضها تسريبات المنابر في موسكو وبكاء رامي مخلوف في دمشق.