نجح مصطفى الكاظمي في نيل ثقة البرلمان العراقي وأصبح رسمياً رئيس وزراء العراق. صَوَّت البرلمان لصالح الحكومة (بما في ذلك على وزراء الدفاع والداخلية) في 6 من الشهر الجاري بانتظار البت في اكتمال أسماء من يتولون الوزارات المتبقية، وهو أمرٌ أصبح من عاديات تشكيل أي حكومة في العراق منذ عام 2003. ولا ريب أن تشكيل حكومة الكاظمي وتمريرها حدثٌ سياسيٌّ مهم، ليس فقط لفشل آخرين في تشكيل حكومة جديدة منذ استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي (محمد توفيق علاوي، وعدنان الزرفي)، بل لأن في اسم الكاظمي وخلفيته السياسية والمهنية وظروف تشكيل حكومته ما يدفع لقراءة أعمق لتحولات المشهدين الإقليمي والدولي.
موقف الولايات المتحدة وإيران إزاء ترشيح الكاظمي
منذ سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين عام 2003 مثّلت عملية تشكيل أي حكومة واجهة أولى من واجهات الصراع الإيراني الأمريكي على بسط النفوذ داخل “العراق الجديد”، بحيث كان واضحاً أن تعايشاً صعباً، كان يميل لهذا الطرف أو ذاك، ظل يجري داخل الحكومات المُتعاقِبة، وإن حظي النفوذ الإيراني بحصة الأسد داخل الحكومات التي تلت الانسحاب الأمريكي من العراق (عام 2011) في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.
وقد أوحى الرفض الذي عبَّرت عنه تيارات عراقية موالية لإيران لترشيح الكاظمي لهذا المنصب، بأن الرجل ليس مُحبباً لطهران، خصوصاً أن بعض حملات هذه التيارات اتهمت الكاظمي، بصفته رئيساً لجهاز المخابرات الوطني العراقي، بأنه متواطئ مع الأمريكيين في اغتيال الجنرال قاسم سليماني (قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري)، وأبو مهدي المهندس (نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق) في 3 يناير الماضي. إلا أن حضور قادة التيارات السياسية الشيعية حفل تكليف الرئيس برهم صالح الكاظمي بتشكيل الحكومة (9 أبريل الماضي)، أوحى بأن الفيتو الإيراني قد رُفِعَ عن الرجل، وأن حكومة الكاظمي تستفيد من تحولات جارية داخل أروقة مُتَّخذي القرار في طهران.
ومن التبسيط القول إن مصطفى الكاظمي يمثل ترجيحاً لكفة النفوذ الأمريكي في العراق، وإن كانت واشنطن تُفضِّله عن أسماء أخرى واضحة في موالاتها لطهران أو أخرى رمادية الهوية والموقف. وفيما تحتاج طهران تقليدياً لشخصية كاملة الولاء للجمهورية الإسلامية، فإن واشنطن، وإن كانت تُفضِّل شخصيات تُناصِب إيران العداء، إلا أنها بدأت تميل إلى دعم شخصيات وسطية تسعى لتعظيم الوضع السيادي للدولة العراقية.
والظاهر أن الاحتضان الذي حظي به الكاظمي، سواء في شكليات التكليف ثم تسهيلات التأليف وصولاً إلى السرعة في منحه وحكومته الثقة، يعود لنقطة تقاطع أمريكية إيرانية من المبكر التعرف بالدقة على ملامحها. والأرجح أن الكاظمي قَدَّم في طباعه ومسيرته المهنية ما من شأنه طمأنة الكتل السياسية العراقية. والأرجح أيضاً أن ضغوطاً غربية قادتها الولايات المتحدة دفعت إلى تسهيل مهام الرجل وتبريد الميدان العراقي بوصفه ساحة صراع وصندوق لتبادل الرسائل الدراماتيكية بين واشنطن وطهران، ومن ذلك مثلاً إشارة واشنطن اللافتة عبر قرارها السماح للعراق باستيراد الكهرباء من إيران لمدة 120 يوماً إضافياً، وربما كان لافتاً أيضاً في هذا الصدد ما قيل عن تَخلِّي الأكراد عن مرشحهم لوزارة المالية بما فُهِمَ أنه استجابة لضغوط واشنطن لتسهيل إخراج حكومة الكاظمي.
فُرَص حكومة الكاظمي في مُصالحة الشارع العراقي والنأي عن الصراعات الإقليمية
من الواضح أن الكاظمي يُحاول التقاط اللحظة المحلية الإقليمية الدولية الراهنة ليتقدم بخطوات سريعة وجريئة لمصالحة الشارع العراقي المُنتَفِض منذ أكتوبر الماضي (2019). وبناء على قوة الدفع الخارجي هذه يمتلك رئيس الوزراء العراقي الجديد هامشاً أوسع نسبياً للمناورة، سواء في مسألة ملاحقة مَنْ قَتَلَ المتظاهرين (مع ما يعنيه ذلك من اختراق لدوائر حزبية قريبة من إيران)، أو في مسألة الوعد بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة (لطالما رفضتها هذه الدوائر في أوقات سابقة) لم تستطع الشخصيات التي كلفت بتشكيل الحكومة سابقاً أن تَعِدَ بها بنفس الشكل الواضح، أو لجهة إنصاف الفريق عبد الوهاب الساعدي من خلال إعادته لعمله وترقيته وتعيينه رئيساً لجهاز مكافحة الإرهاب.
وبحكم موقعه على رأس جهاز الاستخبارات، يملك مصطفى الكاظمي معطيات حسية دقيقة قد لا تملكها شخصيات سياسية أخرى، كما أن قدرته على قيادة الجهاز من داخل حقول الألغام السياسية والميليشياوية التي يعرفها البلد، يُظهِر جانباً مهماً من شخصية الرجل وقدراته في التواصل مع كافة تناقضات العراق الداخلية، وحُسْن التعايش مع تناقضات الأجندات الخارجية حول هذا البلد.
ويُدرك الكاظمي أن الحكمة تقتضي أن يدفع باتجاه تقوية الدولة العراقية دون الاصطدام مع الأمر الواقع الإقليمي الذي يمثله النفوذ الإيراني داخل الطبقة السياسة، لاسيما لدى الأحزاب الشيعية. والأرجح أن رئيس الوزراء الجديد قد قدَّم ضمانات جادة إلى طهران بأنه لن يمارس سياسة عدائية ضد مصالح إيران في العراق، خصوصاً أنه، بحكم تجربته وموقعه السابق، يُدرك أنه لا يستطيع تشكيل حكومة وممارسة حكم دون ذلك.
وعلى أساس متانة هذه الضمانات، يَعِد الكاظمي بالانفتاح على العالم العربي، لاسيما دول الخليج، كما يسعى لتطوير وإعادة تعريف العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، والتفاهم على مستقبلها، بما يتجاوز ما دعا إليه البرلمان العراقي حكومة بغداد من السعي لإخراج القوات الأمريكية من البلاد عقب مقتل الجنرال سليماني.
ويستفيد الكاظمي من عوامل عدة قد تساعده على القيام بمهامه دون عراقيل داخلية وخارجية كبرى.
أول تلك العوامل، انكشاف الطبقة السياسية منذ اندلاع الحراك الشعبي ووضوح عجزها عن مواجهة هذا الحراك وتشكيل حكومة ترقى إلى مستوى هذا التحدي.
وثانيها، حاجة الولايات المتحدة وإيران إلى تبريد الساحة العراقية ووقف التعامل معها بصفتها ميدان الصدام وتصفية الحسابات على ما برز منذ اغتيال سليماني والمهندس.
وثالثها، تفاقم الأزمة الاقتصادية العراقية وانسحاب أجواء الانكماش الاقتصادي على المنطقة والعالم نتيجة أزمة جائحة “كورونا”، بما يستدعي الحاجة الملحة لترتيب البيت الداخلي.
وربما تجدر ملاحظة أن مسائل كثيرة في المنطقة ستنتظر هوية الرئيس الأمريكي المقبل الذي ستخرج به صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وأن الكاظمي يحظى بفترة سماح من عدة أشهر، وربما حتى العام المقبل، حتى ينجلي الضباب عن المشهد الإقليمي، لا سيما ما يتعلق بمستقبل الصراع مع إيران ومستقبل التسوية في سوريا.
استنتاجات وخلاصات
يظهر من سقوط الاعتراضات ضد الكاظمي وتوفر الدعم الداخلي لمهامه أن قوى خارجية نافذة تدخلت بقوة لقلب مواقف التيارات الداخلية لصالح تسهيل ولادة حكومة الرجل والاسراع بمنحها الثقة.
يمتلك مصطفى الكاظمي رصيداً مهنياً وسياسياً جيداً يجعله الرجل الأوفر حظاً لقيادة العراق في هذه المرحلة، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنه سيقود تحولاً استراتيجياً انقلابياً داخل المشهد الإقليمي.
يستفيد الكاظمي من لحظة تقاطع أمريكية إيرانية نادرة تهدف إلى تبريد الصدام الثنائي للدولتين في العراق بانتظار جلاء الأمر بعد زوال جائحة كورونا وإجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
لا يمكن التسليم بانتصار خيار واشنطن من خلال تشكُّل الحكومة العراقية أخيراً، ذلك أنه لم يكن بالإمكان القبول بتكليف الكاظمي تشكيل الحكومة وتسهيل تمريرها في البرلمان دون موافقة طهران الرجل وأجنداته وخططه.
لحظة التوازن التي يحظى بها الكاظمي من المرجح أن تتيح له المُضي قُدُماً في تحقيق إنجازات تُرضي الشارع العراقي، والشروع في إجراءات تعيد الاعتبار لعلاقات العراق العربية، واتخاذ خطوات جديدة في مسار تنظيم مستقبل العلاقات الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة.