الأستاذ خالد محمد عبده
باحث مصري، حاصل على ماجستير في الفلسفة من جامعة القاهرة
———-
أيها المسلمون ما التدبير، وأنا نفسي لا أعرف نفسي،
فلا أنا مسيحيٌّ، ولا أنا يهوديٌّ، ولا أنا مجوسيٌّ ولا أنا مسلمٌ،
ولا أنا شرقيٌّ ولا أنا غربيٌّ، ولا أنا بريٌّ ولا أنا بحريٌّ،
ولا أنا من عناصرِ الأرض والطبيعةِ، ولا أنا من الأفلاك والسماوات،
ولا أنا من التُّراب ولا أنا من الماء، ولا أنا من الهواءِ ولا أنا من النارِ،
ولا أنا من العرشِ، ولا أنا من الفرش، ولا أنا من الكون، ولا أنا من المكان!
ولا أنا من الهند، ولا أنا من الصين، ولا أنا من البلغار!
ولا أنا من أهل الدنيا، ولا أنا من أهل العقبی!
ولا أنا من أهل الجنة، ولا أنا من أهل النار!
ولا أنا من نسل آدم، ولا أنا من نسل حواء!
ولا أنا من أهل الفردوس، ولا أنا من أهل جنة الرضوان!
وإنما مكاني حيث لامكان، وبرهاني حيث لابرهان!
فلا هو الجسد ولا هو الروح، لأنني أنا في الحقيقة من روح الروح الحبيب.
يقول حضرة مولانا جلال الدين البلخي مولدًا الرومي مقامًا وحياةً هذه الكلمات، وقد اعتبر إدوارد بروان هذه الغزلية من أجمل الغزليات التي بدأ بها مولانا جلال الدين ديوانه شمس تبريز[1] وقام بترجمتها عن الإنجليزية العلاَّمة المصري إبراهيم أمين الشواربي، أستاذ اللغة الفارسية وآدبها في جامعة فؤاد الأول في عام 1954م ضمن ترجمته للجزء الثاني من كتاب تاريخ الأدب في إيران (من الفردوسي إلى سعدي)، وقد قارن الترجمة الإنجليزية بالأصل الفارسي للغزلية.
وعن الأصل الفارسي وحده قام الأستاذ علاء الدين السباعي مؤخرًا في كتابه مختارات من قصائد مولانا جلال الدين الرومي وغزلياته بترجمة الغزلية كاملة مما يساهم في جلاء معناها ووضوحها أكثر، فجاءت على نحو أبين وأظهر. يقول مولانا تتميمًا للغزلية أعلاه:
لقد تخلَّيتُ عن الثنوية، إذ رأيتُ العالمين عالمًا واحدًا
واحدًا فحسب هو من أبحثُ عنه
واحدًا فقط هو من عرفتُه
واحدًا فقط هو من أراه
واحدًا فقط هو من أناجيه
هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطنُ، لا أعرف أحدًا آخر سوى “يا هو” و”يا من هو”.
أنا ثملٌ بكأس العشق… العالمان ضاعا من إدراكي ومعرفتي، ليس لي ما يقوِّمني سوى الاستغراق في النشوة الروحية.
لو أنني قضيتُ لحظة من عمري في يومٍ بدونك، لندمتُ على عمري منذ تلك اللحظة وتلك الساعة.
لو تيسَّر لي الجلوس معك للحظةٍ في هذه الخلوة لجعلتُ العالمين تحت قدمي ولرقصتُ طربًا.
وقد اعتبر هذه الغزلية الأستاذ عاطف جودة نصر، في كتابه الرمز الشعري عند الصوفية، رمزًا من رموز الحدس الصوفي المفضي إلى وحدة الأديان، وأراد أن يعضد رأيه فوجد في إحدى الغزليات لمولانا في ديوانهشمس تبريز، والتي ترجمها نيكلسون[2]، معينًا على ذلك. يقول جلال الدين الرومي:
نفسي! أيها النورُ المُشْرقُ لا تنأ عني… لا تنأ عني.
حُبِّي! أيها المشهدُ المتألِّقُ لا تنأ عني… لا تنأ عني.
أنظرُ إلى العمامة أحكمتُها فوق رأسي… بل أنظر إلى زنار زرادشت حول خصري.
أحملُ الزنار وأحملُ المخلاة؛ لا… بل أحملُ النور فلا تنأ عني!
مسلمٌ أنا ولكني نصرانيٌ… وبرهميٌّ وزرادشتيٌّ.
ليس لي سوى مَعْبدٍ واحدٍ… مسجدًا أو كنيسة أو بيت أصنام.
ووجهك الكريم فيه غايةُ نعمتي! فلا تنأ عني… لا تنأ عني.
ترجم هذه القطعة عن الإنجليزية دون مقارنتها بالأصل الفارسي العلاَّمة المصري أبو العلا عفيفي[3]، وقد استدلَّ بهذه القطعة نيكلسون على أن الصوفية يعتبرون الحبَّ أساس الأديان، وبهذه النظرة تمكَّنوا من حل مشكلة الشَّر والقدر[4]، فكما يقول مولانا: إنه بقدر حبِّ المرء لربِّه يكون علمه بأسرار القدر، لأن الحبَّ اسطرلاب أسرار السماء، وهو الكُحلُ الذي تكتحل به عين القلب فينجلي بصرها.
وفي الجزء الثاني من مختارات من ديوان شمس الدين تبريزي ترجم العلاَّمة المصري إبراهيم الدسوقي رحمه الله غزلية تحت عنوان اعزف أيها المطرب على القانون تنحو نحو الغزلية التي نعتني بها هنا، جاء فيها:
أيُّ إنسان أنا؟ وتراني من أكون؟ فأنا شديد الوسوسة، فأنا أُجذب من ذلك الصوب وأُجذبُ أيضًا من هذا الصوب.
ومن الشد والجذب كالقوسِ في كفِّ من يجذبني من أذني، وثمة فضيحةٍ تحدثُ ما دمتُ كبَابِ الدارِ.
فهل أنا نجمةٌ في الفلكِ؟ من برجٍ إلى برجِ أبكي في نُحوسها وأضحك في سُعودها؟
في لحظة أسرى كالريح، وفي أخرى عاطلٌ لا أصلحُ لعمل!
في لحظة نار وفي لحظة سيل… فمن أيِّ أصلٍ أنا؟ ومن أيِّ فضل أنا؟
في لحظة أكون فوق الطباق وفي لحظة في الشام أو العراق.
في لحظة أكون رفيقًا للقمر وفي لحظة أكون ثملاً بالإله.
في لحظة أكون يوسف في البئر وفي لحظة أكون أذى للجميع.
اعزف أيها المطربُ على القانون، هوس ليلى والمجنون، فلقد تخلَّصتُ من القيود، وخلعتُ وتد الوعي.
وبالله لا تفر منِّي ولا تُهرق قدح الحبِّ، وماذا يضير يا مليك الحِسان إن سمعت نصيحتي؟
وهيَّا أيها الأول والآخرُ قدِّم ذلك الشراب الفاخر، فقد صار هذا المجلس منوَّرًا بك يا عشقي المحمود.
وقدِّم هذه الخمرة الروحية من حانات المعاني، فإن عبدك لجدير حقًّا بأن يُعطى من هذه الخمر.
ولتجعل ناطقة الروح تطيرُ بعيدًا عن هذا المنطق الرسمي؛ فإن جواد نُطقي لا يجدُ الميدان.
إن ما نقلناه من غزليات تتردد كثيرًا على ألسنة محبِّي مولانا الرومي اليوم، ومنهم من يختزل الرومي فيها وحدها، ويراه فوق الأديان أو مؤمنًا بوحدتها جميعًا، ولا ينتبه إلى أنه يشير إلى الواحد وحده ويبحثُ عنه. ومنهم من يراه واقعًا في الحيرة، معبِّرًا عن ذلك بلسان الحال. کل مرة ألتقي فیها بالمولوي في عرصات دیوان شمس تبریز، تغشاني تلك الحیرة؛ ماذا یبغي الرومي؟ عم بیحث؟ ماذا یقول؟ بِمَ أحس؟ وأي طوفان تعکس هذه الجلبة التی لا یقرُّ لها قرارٌ؟
ومولانا جلال الدين الرومي نفسه من عبَّر في صراحة عن معتقده وكأنه يرى ما سيقع بعده من اختلاف:
إنني خادمُ القرآن، وذرة غبار في طريق المصطفى المختار صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإني لأشكو أمري إلى الله من هذه الإسنادات وأُبرئُ نفسي من قائلها.
بل إنه يقول في صراحة في كتاب فيه ما فيه:
اعلم الآن أن محمدًا هو الدليلُ، وإذا لم يأتِ الإنسانُ أولاً إلى مُحمد، فإنَّه لا يُمكنُ أن يصلَ إلينا، مثلما يحدث عندما تريد أن تذهب إلى مكان، في البدء يعمل العقلُ دليلاً، بعد ذلك تعمل العين دليلاً، ثم تتحرك الأعضاء على هذا الترتيب.
ويخصص مولانا الفصل الخامس والعشرين من كتابه فيه ما فيه لشرح الحديث الواصف للنبيِّ (لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك) ويصف النبيَّ قائلاً:
كل ما يمتلكه الأولون والآخرون إنما يمتلكونه بوصفه انعكاسًا له، وهم ظلُّه صلى الله عليه وآله وسلم.
بل إنه يرى أن جميع الأنبياء والأولياء والعارفين الذين جاءوا قبله بمثابة الظلِّ له، ولو دخل الظلُّ إلى بيتٍ قبل صاحبه فالداخل هو صاحبُ هذا الظلِّ في الحقيقة، لذا فإن جميع الأنبياء وإن جاءوا قبل النبي وسبقوه، إلاَّ أن هذا السبق نسبيٌّ، فكما أن جميع الفضائل التي تقوم بها اليدان والرجلان تعود إلى العقل، فكذلك فضائل جميع الأنبياء تعود إلى النبيِّ لأنه هو السبب في وجودهم.
أردت في هذه المقالة أن ألفت النظر إلى هذه الوجهة التي لا يراها الكثيرون اليوم من عشَّاق مولانا، أو يرونه فوقها، كما أردت بالعودة إلى الترجمات العربية أن أؤكد على حضور مولانا جلال الدين الرومي في الثقافة العربية منذ فترة بعيدة، كردٍّ على ما يثار من أن العرب والمصريين لا يعرفون عن مولانا سوى النزر اليسير من المثنوي، فأتيت بقطعة واحدة تُرجمت عدَّة مرات من ديوان شمس تبريز، على أن جهود المصريين خاصة في الاحتفاء والاهتمام بما يقوله مولانا أكبر من أن تُنكر إلا ممن أغمض عينه عن رؤية الشمس، ولعلي في مقالي آخر أخصص بحثًا يحصر كل ما كُتب عن مولانا جلال الدين الرومي بالعربية في مصر، بدءًا من كتابات عزَّام والشواربي، وانتهاء بما كتبه تلامذة الدّسوقي شتا، نفعنا الله بعلوم مولانا في الدارين وتقبَّل اللهم من كل محبِّيه.