لبنان: بعبدا تنتظر توافق تجار الغاز/محمد قواص

الإفراج المحتمل عن ملف النفط في لبنان، يؤكد سحب أي هامش لبناني يذكر في مستقبل الرئاسة في البلد، كما في مستقبل منظومته السياسية.

2567

يزور وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت لبنان. تستبق الصحافة اللبنانية الزيارة بجرعات عالية من التطبيل حول ما يخبئه موفد باريس في جعبته للبنانيين. وفيما تَعتبرُ الـ“كي دورسيه” (مقر الخارجية في باريس) أن وزيرها يقوم بزيارة عادية من ضمن زياراته للخارج، يجد إيرولت نفسه محاطا بهالة في بيروت تعيد الأمجاد الغابرة لبلده حين كان اللبنانيون، أو قسم منهم، ينظرون إلى فرنسا بصفتها “الأم الحنون”.

لم تعد فرنسا كذلك بالنسبة إلى اللبنانيين، فلكل فريق أمُهُ الحنون، وربما أن كثرة الأمهات وفائض حنانهن هما سبب العلّة في البلد. وربما أن تراجع كفاءة الأمومة عند العديد من الأمهات هو ما رفع أسهم الأم القديمة. لكن رجل باريس القادم إلى لبنان يعرف في قرارة نفسه أن بلاده لم تعد تستطيع أن تكون على مستوى آمال اللبنانيين الباحثين عن ترياق من وراء البحار لعلاج مأزقهم.

يكرر الوزير الفرنسي رواية ممجوجة مفادها أن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان هو بيد اللبنانيين. ينضم بذلك إلى الصيغة المعتمدة في عواصم عدة، حتى أن الفرنسيين أنفسهم سمعوها من وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، فيما تكرر الرياض أنها لا تتدخل في ما هو شأن لبناني.

يهز رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام رأسه. يقول إن كل رؤساء الجمهورية في لبنان منذ الاستقلال حتى الآن، وربما باستثناء حالة واحدة، انتُخبوا من خارج لبنان.

ليس في الأمر كشف جديد، فنزيل القصر الرئاسي هو ثمرة تقاطع دولي إقليمي، بحيث يمثّل رأس السلطة في لبنان مشهد توافق ما بين واشنطن أو باريس أو موسكو وعواصم المنطقة، القاهرة، دمشق، والآن طهران. وحتى آخر رئيس لبناني ميشال سليمان، فقد تمّ انتخابه في الدوحة وفق شيفرة معقّدة كانت للغرب والشرق جرعات داخلها.

لكن الحراك في لبنان يوحي بأن القادة اليائسين من “حنان” خارجي يأتيهم برئيس، باتوا مصدّقين لإمكانية تحقيق الإنجاز محليا، أو يوحون بذلك للبنانيين.

يطرح سعد الحريري سليمان فرنجية مرشحا، يقابله تسويق يقوم به سمير جعجع لصالح ميشال عون مرشحا. وفي يوميات الهمم، سحور بين زعيم المستقبل وزعيم القوات، ولقاء جمع الأخير بوليد جنبلاط، وآخر جمع الأخير بالسيّد حسن نصرالله. وفي خلفيات الهمم قبل ذلك، عشاء في ضيافة السفير السعودي جمع شخوص البلد، وأسال حبرا كثيرا في تفسير موقف الرياض وتأويله.

في المواقف الملتبسة المعلنة ما يؤكد “لبنانية” الاستحقاق الرئاسي. وفي التهكم الذي تنضح به الجملة السابقة تعبير عن تناقض رؤيتين. الأولى صادرة عن قوى مقابلة لحزب الله تعتبر أن إيران هي التي تمنع انتخاب رئيس للجمهورية، والثانية صادرة عن حزب الله نفسه الذي يتهم الرياض قبل أيام بأنها تعطّل انتخاب الرئيس. وعليه فإن خلاصة منطقية تقول إن اللبنانيين يتسلَّوْن بضجيج يقطعون به الوقت الضائع في وطنهم الصغير، في انتظار توافق الأوطان الكبيرة.

لا يمكن إلا الإقرار باهتمام دولي بلبنان. وليس في الأمر مبالغة في القول إن عدد ووتيرة الزيارات التي يقوم بها مبعوثون دوليون للبلد أعلى بأضعاف من نظيرتها إلى بلدان المنطقة الأخرى. البعض يعتبر أن هذا الاهتمام الظاهر يعبّر عن عزم على بناء شبكة أمان تحمي البلد الصغير من زلازل تعصف بالمنطقة برمتها، وأن الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري والأمني هدفه إعطاء إشارات لقوى الداخل كما لقوى الخارج بأنه ممنوع انهيار البلد، وأن وقف هبة الثلاثة مليارات من الدولارات من قبل الرياض لا تُوقف تدفق المساعدات العسكرية الخارجية للجيش اللبناني، وأن مناعة لبنان الأمنية، رغم الاختراقات التي تحصل بين الفينة والفينة عالية صلبة رغم ضغوط المأساة السورية، عائدة في جانب منها إلى التغطية التي توفّرها أجهزة المخابرات الدولية في تواصلها الدائم مع الأجهزة اللبنانية.

لكنّ بعضا آخر يرى في الاهتمام الدولي بلبنان شكلا من أشكال مقاربة التمدد الإيراني ومنعه من فرض أمر واقع على النظام السياسي اللبناني. لم يستطع حزب الله فرض رؤاه الرئاسية، هذا في حال تمّ بوضوح الإفصاح الحقيقي عن تلك الرؤى، ولم يستطع الإمساك دستوريا بنظام البلد من خلال دعوة زعيمه إلى مؤتمر تأسيسي يعيد صياغة المشهد الدستوري من جديد. فيما يعيد الحزب تموضعه مدافعا لا مهاجما داخل البلد، ويحاول من خلال حراكه السياسي المحلي الاحتماء بحصانة شرعية تقيه الغضب العربي والإسلامي والدولي الذي يستهدفه. وما فصول الحصار المصرفي إلا مشهد صغير من رواية كاملة يرتعب الحزب من احتمالات نهايتها.

وفي أخبار البورصة الرئاسية، التي رفعت من أسهم سليمان فرنجية يوما ما، ارتفاع لأسهم منافسه ميشال عون. لا شيء يوحي بأن طهران عازمة على فتح أبواب بعبدا، حتى أمام حليفها “الجنرال”، فلذلك أثمان في لبنان والمنطقة، ولا شيء يشي بأننا دخلنا موسم القطاف. لا شيء يوحي بأن الرياض رفعت “الفيتو” عن شخص عون رئيسا، على الرغم من أنه كان ضيفا لافتا على مائدة السفير السعودي علي عواض العسيري، فلا منطق يستشرف أن توافق السعودية على حليف حزب الله وإيران وهي التي تشنّ عليهما حربا على كل الجبهات. ولا شيء يوحي بأن لبنان بحاجة إلى إيصال رئيس، أيا كان هذا الرئيس، وفق تلميحات جنبلاط، أو وفق تلميحات عون “أنا الرئيس أو لا أحد”. ولا شيء يوحي بأن “سلة” نبيه بري التي تُعْتَبَرُ نسخة معدّلة للمؤتمر التأسيسي العتيد، صار بالإمكان تسويقها في مواسم التنزيلات.

يؤكد الإفراج المحتمل عن ملف النفط في لبنان سحب أي هامش لبناني يذكر في مستقبل الرئاسة في البلد كما في مستقبل منظومته السياسية. يأتي “غاز لبنان” من ضمن جهد عابر للحدود يعيد رسم خرائط الإنتاج وطرق توصيل الغاز المكتشف حديثا في المنطقة. يندرج تقدم العلاقة بين روسيا وإسرائيل ضمن هذا الإطار، ولا يغيب ذلك عن خلفيات المصالحة التركية الإسرائيلية، ولا عن تلك الدراماتيكية العاجلة بين تركيا وروسيا.

في لعبة المصالح الكبرى تلك، سبق لمساعد وزير الخزينة الأميركي دانيال غلايزر، ومساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة والنفط والغاز آموس هوكشتاين، أن زارا البلد. صحيح أن الأول أتى متابعا لعقوبات بلاده المالية ضد حزب الله، لكن تواكب الزيارتين يوحي بأن مهمة المبعوثين واحدة: تهيئة لبنان لدخول موسم إنتاج الطاقة، مع ما يتطلبه ذلك من حثّ لقوى البلد على تذليل خلافاتهم، وهذا ما ظهر في اتفاق عين التينة بين الرئيس نبيه بري والوزير جبران باسيل، وما يتطلبه ذلك من معالجة لحالة الدويلة التي يمثلها حزب الله في لبنان، والعمل جار على ذلك.

التقط جبران باسيل أمر ذلك، وهو الذي خبر الملف النفطي حين كان وزيرا للطاقة. سارع الرجل إلى إنتاج تلك التوليفة لعلها تعطي إشارة للخارج حول جهوزية المرشح ميشال عون لضمان تحوّل لبنان إلى بلد نفطي وفق المعايير والشروط المطلوبة إقليميا ودوليا. على أن هناك قوى جديدة ممسكة بملف النفط والغاز تضاف إلى تلك التقليدية في منطقة الخليج (وإيران طبعا)، على النحو الذي يجعل نزيل بعبدا الجديد رهن مزاج الأتراك والروس، كما الإسرائيليين والغربيين، كما الإيرانيين والخليجيين…

ويقولون لك إن باستطاعة اللبنانيين “وحدهم” انتخاب رئيس لجمهوريتهم.

نقلا عن: العربیه

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *