بريطانيا خارج أوروبا: الانقلاب على السلم!/ محمد قواص

لا يعني الخروج البريطاني من أوروبا أن المتحقق هو خروج سياسي من تكتل اتجادي، بل هو خروج نفسي غرائزي بعض الشيء نحو المجهول.

2464

يستغرب المتأمل ليوميات ما بعد الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي كمّ الأرقام والبيانات والإحصاءات التي قُصف بها العامة كما النخب لتفسير مآلات الأمر على البلد وناس البلد راهناً ومستقبلاً. في ذلك أن الحدث تقدّم بصفته تطوراً اقتصادياً يتداعى على أسعار الجنيه الاسترليني ومؤسرات البورصة وعواصم المال وقرارات الشركات الكبرى، وفي ذلك أيضا تبسيط للصدمة التي ألمّت بالبريطانيين كما بالأوروبيين ودفعها نحو مواصفات تقنية تعالجها آليات الحساب.

تثبت الساعات تلو الساعات هذه الأيام أزمة فراغ نوعيّ داخل الطبقة السياسية البريطانية. وربما أن هزال الزعامة ينسحب أيضاً على العالم أجمع من حيث اندثار موجة القامات التاريخية التي أطلت على العالم بعد الحرب العالمية الثانية فرسمت وفصّلت وقوّمت العالم الذي ترتبك توازناته هذه الأيام.

لا تفرز قريحة ساسة لندن إلا مماحكات بمستوى زواريب العالم الثالث من توقٍ نحو المناصب أو تمسك بها، حتى لو كان أمر ذلك يستلزم بتر بريطانيا عن فضائها التاريخي الأوروبي. ولئن أتت نتائج استفتاء 23 يونيو الماضي بأغلبية هزيلة (52 بالمئة) لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، فأن أمر ذلك جاء مفاجئا صاعقا حتى لدعاة القفز من السفينة الأوروبية، على النحو الذي يوحي أن “بريطانيا العميقة” بمؤسساتها الممسكة بوجودية المملكة لم تتدخل للتحكم بمزاج الصناديق، بما يعني أنها كانت غير مكترثة بما سيخرج عنها. وما ابتعاد لندن عن الإيحاء بمخارج ممكنة للبقاء في “أوروبا” إلا دليلا على نهائية تقهقرها نحو “الجزيرة” والقطع مع اليابسة التي ارتبطت بها لزمن قارب النصف قرن.

يعبّر البريطانيون هذه الأيام عن وجع ما بعد الولادة. ينقسم البلد بين مزاج شوفيني متعصّب يستدعي ذاكرة “بريطانيا” العظمى التي لا تغرب عنها الشمس، وبين مزاج فتي منفتح يتنشق شروط الراهن التي رسمها رفع الحدود بين الشعوب. ومقابل الشامتين المنتقمين من “الاستبداد” الأوروبي، تخرج المسيرات وتُوقّع العرائض ويعلو الصراخ حباً بـ “أوروبا” التي يغادرونها مرغمين. كان بامكان لندن أن تلتف على استفتاء استشاري غير ملزم لتجعل ثمراته مستحيلة برلمانيا ودستورياً، لكنها لم تفعل ولم تلوّح لحظة باحتمالاته، ذلك أن يمين بريطانيا كما يسارها أصبح نهائياً خارج “نادي بروكسل”.

بيد أن استخفاف لندن بنتائج الاستفتاء وتقديسها لـ “خيار الشعب” سيكون مسؤولاً عن مباشرة ورشة تفكيك وتركيب ستقود حتماً إلى الإبحار داخل الضباب إلى شواطئ مجهولة. في حسابات صحافة لندن بين من صوّت ومن غاب عن التصويت أن 25 بالمئة من الشعب البريطاني فقط هي التي اختارت “الخروج” وهي التي تلاعبت بمصير أوروبا ووحدتها كما بمصير بريطانيا ووحدتها كما بموازين الحرب والسلم في القارة. تخضع “بريطانيا العميقة” لمزاج ربع الشعب البريطاني في تمرين يطرح أسئلة حول نجاعة مفهوم الديمقراطية في التعبير الحقيقي عن رغبات الأمم.

لم تكن الفكرة الأوروبية مشروعاً اقتصاديا على ما تفترضه حسابات الخروج من الاتحاد. كان الفرنسي روبير شومان من داخل سجنه النازي يطرح الأمر بصفته الآلية الوحيدة لوقف مسلسل الحروب التي لا تنتهي في أوروبا. كان الرئيس الفرنسي الراحل يعتبر غداة انتهاء الحرب عام 1945 أن “ألمانيا خاصت ثلاثة حروب في حياة رجل واحد”، وعليه لا خلاص لأوروبا إلا بالخلاص من ألمانيا. كاد الأمر أن يتمّ للرجل فدخلها الحلفاء وفتتوها إلى أربع منطق نفوذ توزعت على فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ولم ينقذ ألمانيا من مصيرها الإلغائي إلا اندلاع الحرب الكورية وقيام الحرب الباردة.

حوّل الثنائي الفرنسي الألماني ديغول – أديناور فكرة شومان إلى واقع. لا سلم في القارة إلا من خلال ما تحوّل لاحقاً إلى اتحاد. وإذا ما كانت المداخل اقتصادية لتلك الورشة فإن هدفها الأول والأخير هو السلم واستمراره في القارة الأوروبية. نجح أمر ذلك وتوقفت الحروب والنزاعات نهائيا منذ الحرب العالمية الثانية، حتى أن الأوروبيين والعالم أجمع اعتاد بعد عقود على السلم الأوروبي بصفته قاعدة وهو غافل عن الآلية التي عمل عليها الاتحاد يومياً لتوفير ذلك.

السلم في أوروبا بدون الاتحاد هو استثناء وليس قاعدة. وما فعله الاستفتاء البريطاني هو انقلاب على وجود أوروبا أي على وجود فكرة السلم. لا تقاس مصائر الشعوب بالأرقام وبحسابات الربح والخسارة كما في غرف المتاجر الخلفية. فأن تقوم فكرة الخروج من أوروبا على مسلمة “بريطانيا أولاً”، فتلك تروّج لمسلمات فرنسا أولاً وألمانيا أولاً وإيطاليا أولاً…إلخ، لكنها تحقن زيتا في نار “انكلترا أولاً” و”اسكتلندا أولاً”… إلخ، بما يعني عودة إلى قواعد قيام النازية والفاشية التي لم يتم اجتثثاثهم إلا بحرب مدمرة مقيتة.

لا نقول في سطورنا أن الحرب على الأبواب لكن جينات السلم تتراجع. تنتعش بذور الكره والتعصب بدل التضامن والانفتاح، وترتقي شعارات اليمين المتطرف من مخابئها التحتية لتحتل المنابر العليا، فتتبناها أحزاب كبرى وتدافع عنها زعامات معتبرة. وربما في الصفحة التالية من هذا الكتاب المفتوح، ستتقدم أحزاب التطرّف مطالبة بحقها الشرعي في الحكم طالما أن شعاراتها وأفكارها باتت هي من يقذف ببريطانيا خارج “أوروبا”، وقد يغري أعضاء آخرين لمغادرة النادي الإقليمي العريق.

يقف الاتحاد الأوروبي على مفترق طرق وجودي، وربما من أجل هذا السبب وتسهيلاً لخياراته العاجلة المقبلة بات يحتاج إلى خروج بريطانيا بأسرع وقت ممكن. أحدث الاستفتاء البريطاني ارباكاً وعبثاً وفوضى داخل البيت الأوروبي، ولم يعد همّ الأوروبيين التعويل على عودة البريطانيين إلى رشدهم، ذلك أنهم سأموا تدلل لندن منذ وصولها إلى ناديهم وهي تتعامل معه كنزيلة فندق تتأفف من خدماته ثم تتركه وتمضي تبرماً من تراجع مفترض لها. بات هاجس الأوروبيين الحفاظ على صلابة بيتهم وترميمه واصلاحه، وربما التغاضي عن رغبة آخرين في الخروج توقاً لرشاقة أنجع للاتحاد. فإذا ما كان تمدد الاتحاد السريع نحو 28 دولة كان يهدف إلى استيعاب اللحظة التاريخية التي وفّرها انهيار معسكر أوروبا الشرقية السوفياتي الهوى، فإن الحدث الراهن بات يجبّ ذلك الخلفي العتيق.

يحرر استفتاء الـ “بريكست” وصفة نزاع وصدام وتقاتل تشدّ بريطانيا والقارة ربما إلى مجاهل الحروب الدينية. ألم تلوّح قيادات حزب “شين فين” في إيرلندا الشمالية غداة الاستفتاء إلى الدعوة لإستفتاء للخروج من بريطانيا والوحدة مع إيرلندا؟ تكفي هذه الفرضية لإعادة استنفار الغرائز الطائفية بين كاثوليك وبروتستانت في توهجها الذي لم يعمل اتفاق “الجمعة العظيمة” عام 1998 إلا على تسكينه بانتظار مواسم فلاحة أخرى.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *