كل من يعارض سلطة بغداد هو داعشي /ماجد السامرائي

الأحزاب الشيعية الحاكمة هي من فصيلة الأحزاب الشمولية، بل هي أكثر قساوة وانغلاقا عن غيرها ولهذا لا نستغرب ما نشاهده اليوم عند حكام بغداد من إلغاء للآخر والتصرف المطلق بالسلطة دون اعتبار لأحد من أهل العراق، وفق تغطية وتمويه لكيفية وصولهم للسلطة التي اعتبروها منحة أميركية إيرانية مزدوجة، من هنا جاء هذا الاستئثار المنغلق ووجدوا أن صناعة الأميركان للنظام السياسي وفق المحاصصة الطائفية مهمة وضرورية لأنها أمّنت لهم حكما طائفيا مطلقا. ولا اعتبار لأي معارضة وطنية كان لها الشرف التاريخي بمقاومة الاحتلال.
حزب الدعوة ذاته تخلى عن شعاراته التي رفعها حينما كان إبراهيم الجعفري المسؤول الرسمي المعلن في لندن، فرمى في سلة المهملات البيان الذي وقعه عام 2002 مع منظمة حزب البعث والحزب الإسلامي العراقي في إدانـة مشروع الاجتياح العسكري الأميركي، وأقنع بعض المتشددين من رفاقه بالفرصة التاريخية التي لا تتكرر للرضوخ للمشروع الأميركي بعـد أن سمـع من طهران تشجيعا ملهما لذلك، وتمت هندسة ونصب الجسر العـدواني المسلح الواصل بين فوهات النار الأميركية وبغداد بسرعة مذهلة في تحطيم وتدمير جميع مرتكزات البناء والتنمية في العـراق بعد عشر سنوات من الحصار الجائر، إلى جانب هدف اقتلاع كل مقومات وحدة الشعب العراقي.

2419

لم تتوقع الأحزاب الشيعية ذلك الإغراء بانفرادهم الطائفي المتجبر، فلا سماح لأحزاب ليبرالية ولا قومية عروبية للمشاركة إلا إذا رضخت لبرنامج المحاصصة المدبّر، أما حزب البعث فقد تم اجتثاثه ومطاردة منتسبيه الذين وصل تعدادهم عشية الاحتلال قرابة المليون من دون عوائلهم، ولهذا ابتدأ شوط الانفراد الطائفي بعد إتمام مستحضراته بعناية من قبل طهران بعد غلق المحاولات الأولية لخلق بيئة السلم الأهلي والحوار السياسي، وقدم الأميركان تلك المقايضة السيئة للسياسيين الشيعة (الانفراد بالسلطة مقابل محاربة المقاومين من العرب السنة) وسوّقت اللعبة المعروفة “من يقاوم الأميركان فهم من أذناب صدام” بعد فتاوى المراجع الدينية المتناقضة بين من يهادن ومن يقاوم، وكلاهما خدم مشروع الاحتلال.

وكانت الاستشارات الإيرانية للسياسيين الشيعة الجدد قد كرست مبدأ “الانفراد التدريجي بالحكم” حتى وصل الحال عما هو عليه اليوم من تكرار لسياسة انفراد صدام حسين بالحكم، ومنع قيام معارضة سياسية إلا إذا آمن قادتها وممثلوها “بقيادة الحزب وثورة 17 تموز”، ووصف المعارضة بالعميلة وبالذات تلك المدعومة من إيران كمجلس الحكيم وفيلقه العسكري بدر الذي ترأسه هادي العامري وحزب الدعوة اللذان رفعا السلاح بوجه النظام بدعم إيراني وسوري لوجستي.

لم يكن صدام طائفيا، بل كان معاديا لكل من يقف بوجهه ويجتهد بمعارضته دون اعتبار لمذهب أو دين أو قومية أو عشيرة أو عائلة، اليوم تتكرر قصة التهميش والإقصاء بشكل أقسى وأمّر لأنها تشحن شعارات الحقـد السياسي بالإطار الطـائفي فمن عارض الاحتلال ويعارض السلطة حالياً حتى وإن لم يرفع السلاح بوجهها يتم تصنيفه بالعدو وتُركب على رقبته تهمة دواعش السياسة، حسب التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء حيدر العبادي الذي يناقض سياسة حزبه الحقيقية حين يدعو إلى الإصلاح، لأن الإصلاح الشامل لا بدّ أن يواجه مشاكل الحكم الجوهرية وفي مقدمتها أزمة الانفراد بالحكم وهذا تدهور نحو المجهول.

لقد وصلت سياسة الانفراد الحزبي الشيعي بالحكم إلى درجة مخاصمة حتى أبناء المذهب من الصدريين لأن شعاراتهم الإعلامية اقتربت من مقدسات “الانفراد بالسلطة” حتى وإن توشحت بالفساد. وأطلقت السلطة على الحراك الشعبي الذي اقترب من المنطقة الخضراء أوصافا هزيلة غير مقنعة مثل “تسلل البعثيين والدواعش إلى مظاهرات الاحتجاج”، بل وصلت حمى التسقيط والاستهانة إلى درجة تخوين مقتدى الصدر من قبل المالكي وغيره من قادة الميليشيات المعارضة للصدر. وكان طبيعيا بعد حالة التدهور العام، التي تعتمد اليوم على رافعة مؤقتة هي محاربة داعش، أن تصل أحزاب السلطة إلى مرحلة أكل بعضها بعضا لأن جميع الشماعات قد تكسرت وتساقطت، فلم تعد شعارات تخويف الشيعة بالعرب السنة مقنعة بعد أن حولهم داعش إلى نازحين من ديارهم محرومين من أبسط حقوق الحياة وينفذ بحقهم مشروع التغيير الديموغرافي، ويطارد ويعتقل ويقتل رجالهم.

أصبحت قضية محاربة داعش بعد الاجتياح المدبّر لأرض العراق خادمة لأغراض استعادة الأحزاب الشيعية لهيمنتها، وتقديم فصائل الميليشيات إلى الواجهة السياسية بقوة، ويصبح الملعب مكشوفا فلا خجل – كما قال وزير الخارجية إبراهيم الجعفري – من تعيين الجنرال قاسم سليماني مستشاراً في الحكومة الذي أخذ يتباهى بتجواله في الفلوجة بعد إهانة أهلها ووصفهم “بالغدة السرطانية” التي يجب استئصالها. وتحصل اليوم تحت ذريعة “تحرير الفلوجة” أبشع عمليات التعذيب والتصفيات الجسدية للأبرياء الذين وضعوا تحت كماشتي ميليشيا داعش والميليشيات الشيعية التي أهانت الشيعة العراقيين، وهم مكون له تاريخ وطني شريف في الدفاع عن العراق ووحدته.
لكن المأزق الذي تواجهه سياسة الاستئثار بالحكم هو أنه لا يوجد منجز للشعب يدافعون عنه ويستخدمونه وسيلة للمباهاة والتبرير، فإمبراطورية الفساد قد أكلت المال العام وحولت العراق الغني إلى دولة مفلسة، وأصبح حفاة الأمس أمراء مال بالملايين والمليارات ومدينة لندن تشهد على عمليات شراء البيوت الفارهة في عمليات غسل الأموال القذرة والمسروقة من قوت الشعب العراقي، هل هذه هي الإنجازات التي يدافع عنها الحكام، أين المستشفيات والمـدارس والطرق والجسور التي بنيت خلال الثلاثة عشر سنة الماضية؟ وأين مراكز العلم والتكنولـوجيا التي فتحت؟ وأين حقوق الإنسـان بعد أن أهينت كرامات الناس؟

كان الإنسان العراقي بحاجة إلى أن يمسك الحرية بعد سنوات العزلة والاستبداد، ويغادر الضعف والوهن إلى عالم جديد من المدنية والتقدم ليصبح قويا متماسكا ينتمي إلى وطنه وهويته لا أن يخضع لقوى تفتيت وإضعاف وإهانة لقيمه وكرامته فتتم عمليات تفكيكه إلى انتماءات طائفية وعرقية، وتجري عمليات الاصطدام والتراجع والضعف وسيادة الكراهية والثأر والحقد وتستحضر محطات الفرقة بدلا من الوحـدة الوطنية، وتتعزز الانتماءات الطائفية لدرجة لم تسبق بالتاريخ ويتم سحب كل مخزونات العاطفة الجمعية والوجدان العراقي في ميادين الثقافة والفنون، وتحل محلها الثقافات المذهبية وتعميم مظاهر اللطم والتطبير وإحياء مناسبات مذهبية لها مكانتها عند الناس لكنها أهينت حين تحولت إلى سياسة للحكم، وتصبح أدوات للكراهية والحقد بين أبناء الشعب الواحد.

فعلى سبيل المثال احتضن أهالي سامراء، وهي مدينة سنية مئة بالمئة، مرقد الإماميْن العسكريين (علي الهادي وحسن العسكري) منذ أكثر من ألف ومئتي سنة، وقبل خمسين عاما لم يكن في المدينة شيعي واحد، وجميع عشائر سامراء السنية يقدسون علي الهادي “ويحلفون برأسه” لكن سياسة التغيير الديموغرافي سرت كالهشيم بالنار عبر عمليات تهجير قسرية لمحيط واسع حول المرقد، وإحلال الشيعة القادمين من إيران محلهم، وتتم عمليات شراء مبرمجة للدور، بل وتعرض سامراء “كمدينة شيعية” كجزء من خارطة الإقليم الشيعي فيما لو تم تنفيذ مشروع التقسيم الطائفي.

أصبح شعار الديمقراطية التي بشر بها الأميركان، كمبرر لإسقاط نظام صدام بعد انكشاف لعبة أسلحة الدمار الشامل، وسيلة لاستـلام الحكم والاستئثار به وقمع معارضيه واليوم يوصفون بالداعشيين ولا نعلم غدا بماذا سيوصفون بعد تصفية داعش؟

الديمقراطية الحقيقية أمثلتها الواقعية هي عند روادها الأوائل والحاليين في أوروبا وأميركا وباقي البلدان الديمقراطية حيث بني صرح الديمقراطية الحقيقية، ففي بريطانيا حيث تمت عملية الاستفتاء حول الاستمرار أو مغادرة الاتحاد الأوروبي خضع قادة الأحزاب الكبيرة ورئيس الوزراء دافيد كاميرون فيها لإرادة الشعب في الاستفتاء الشعبي العام رغم معارضة كاميرون لهذا التحول التاريخي، وبذل جهد انتخابي هائل لتغيير رغبات قسم كبير من الشعب البريطاني بثنيه عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكنه خضع لإرادة الناس وأعلن استقالته من منصبه بعد قرار الخروج من الاتحاد لأن قوانين وتقاليد الديمقراطية تقول ذلك، فأين حكام الأحزاب الشيعية في العراق من ذلك، من قدم استقالته من حكومتيْ حزب الدعوة الماضية والحالية بعدما حل بالبلد من كوارث بسبب تلك السياسات؟ ومن تم إيداعه السجن من رؤوس الفساد وفضح أمام الشعب المكلوم لكي تداوى جراحه، أم يتم ابتلاع حتى دعوات الإصلاح الجدية والحراك الشعبي ويتهم أصحابها “بالمندسين والغوغائيين والبعثيين والداعشيين” لتخويف الناس، وهي سياسة قديمة خارج الزمن جربها النظام السابق وكانت واحدة من عوامل انهياره. هل هناك فرصة لمراجعة حكام بغداد وسياسة الاستئثار والتقوقع ومعاداة كل مخالف؟ لا أعتقد ذلك.

نقلا عن :العربیه

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *