كانت زيارة البحرين مثل الانتقال لكوكب آخر / عبدالله المدني

على طريقة بعض المؤلفين الأجانب الذين وثقوا لبدايات الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في منطقة الخليج قبل وبعد ظهور النفط فقدموا سردًا ثريًا للأجيال الشابة التي لم تعش محنة آبائها وأجدادها المعيشية، يأخذنا رجل الأعمال الإماراتي محمد عبدالجليل الفهيم (صاحب مجموعة الفهيم التي تعتبر واحدة من أنجح الشركات العائلية في ابوظبي، والتي تعمل في مشاريع النفط والغاز وبيع السيارات الفاخرة وإدارة الفنادق والمجمعات السكنية) في رحلة مشوقة للحديث عن عائلته وبداياته معطوفا على الحديث عن بدايات ابوظبي وكيفية انتقالها من إمارة معزولة قاحلة كان سكانها يهجرونها الى دول الجوار بحثا عن الرزق الى صرح نموذجي تتوق لها الأفئدة، وذلك من خلال كتابه «FROM RAGS TO RICHES، A STORY OF ABU DHABI».

h_23(11)

ولعل ما يضفي المصداقية على كتاب الفهيم أن صاحبه شاهد عيان على التحولات النهضوية الجبارة التي حدثت في الامارة على مدى العقود الثلاثة او الاربعة الماضية، ناهيك عن حقيقة قرب عائلته من باني نهضة الإمارات ومؤسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه.

h_24(14)

يقول المؤلف في ص 49 من كتابه الذي ترجم الى العديد من اللغات العالمية أنه تتبع أصول عائلته بالرجوع عدة اجيال الى الوراء فتبين له أن جده الاكبر كان حاكما يستقل بحكم قرية«هرمود» الواقعة بين جبال السواحل الجنوبية من بلاد فارس المطلة على الخليج العربي، مضيفا أن عائلته توارثت تلك السلطة أبا عن جد، وكانت منخرطة في تجارة الترانزيت طيلة الفترة الممتدة من القرن 17 وحتى القرن 19 بسبب وقوع هرمود على طرق القوافل التجارية المتجهة من بندر عباس ولنجة الى مناطق ايران الداخلية.

h_25(9)

ويضيف أنه منذ منتصف القرن 19 بدأت حكومة طهران المركزية تدريجيا، سياسة التمدد صوب المناطق الواقعة على سواحل الخليج من تلك التي ظلت تحكم وتدار لمئات السنين من قبل القبائل العربية باستقلالية تامة عن الايرانيين، الأمر الذي جعل أجداده يدافعون عن سيادتهم بالقتال على نحو ما فعله القواسم في لنجة، لكن بسبب التفوق الايراني في العدد والعتاد العسكري لم يكن أمامهم سوى الرضوخ على مضض للسلطة الفارسية التي راحت تقمعهم وتميز ضدهم.

غير أن جده محمد الذي كان وقتذاك شابًا وغير مكترث بالسياسة والحكم قرر الهجرة الى سواحل الامارات إقتداء بالكثيرين من أقرانه الذين لم يستسيغوا البقاء تحت الحكم الفارسي من بعد قرون تمتعوا فيها بإدارة شئونهم باستقلالية. وهكذا نزح جده إلى دبي للإقامة والعمل بها في عام 1880، حينما لم يكن عمره قد تعدى الخامسة عشرة. أقام الفهيم الجد لدى بعض أقاربة ممن سبقوه الى دبي، وواصل تعليمه في كتاتيب الشارقة. بعدها بعدة سنوات لاحت له فرصة الانخراط في العمل التجاري فاقتنصها دون تردد. ولم تكن تلك الفرصة سوى إفتتاح محل في سوق دبي الشعبي بالاشتراك مع قريبه ابراهيم رئيس، ومزاولة نقل البضائع والاتجار بها ما بين دبي ومدن الساحل الايراني الأمر الذي حقق فيه نجاحًا معتبرًا.

لكن لسوء حظه وحظ الكثيرين من أقاربه وأقرانه، إحترق سوق دبي المبني من جذوع النخيل وسعفه قبيل إنعطاف القرن 19. وهو ما دفع الجد محمد إلى الانتقال من دبي إلى منطقة أخرى. ولما كانت أبوظبي وجزيرة دلما تشهدان وقتذاك نموًا وحراكًا تجاريًا بسبب بروزهما كمركز لصيد اللؤلؤ والاتجار به، فقد انتقل الرجل من دبي الى أبوظبي. وفي الأخيرة استطاع أن يمتلك أو يستأجر بعضًا من سفن الغوص على اللؤلؤ الذي كان يعيش في حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى أزهى فتراته. وفي عام 1905 تزوج من سيدة تنتمي الى قبيلة الهوامل التي تنتمي بدورها إلى قبائل بني ياس، وكتقدير لمكانة الرجل في الوسط التجاري واعترافًا بانتسابه إلى حكام هرمود السابقين (المعروفين باسم كلونتر)، فقد حضر حاكم ابوظبي آنذاك الشيخ زايد بن خليفة حفل زواجه الذي اثمر عن أربعة أبناء وثلاث بنات، وكان فألا خيرا عليه بدليل تحقيقه للمزيد من النجاحات في عمله التجاري الجديد في أبوظبي، فضلا عن مجالسته للحكام والشيوخ بصفته تلك، وإسستئناس هؤلاء بسديد رأيه في الكثير من الأمور، خصوصًا وأنه كان من ضمن القلة من المطلعين على الأدب والتاريخ وممن كانوا يقرؤون ويكتبون وقتذاك.

ومرة اخرى يتعرض الجد محمد الفهيم لكارثة حرائق في عام 1910 قضت على أصول كان يتجار بها من خلال دكاكين مستأجرة في سوق ابوظبي الشعبي. وملخص القصة كما رواها حفيده محمد عبدالجليل أن واقعة الحريق كان سببها خلاف بين مالك المحلات وزوجته التي لم تجد سبيلا للانتقام منه إلا باحراق أملاكه.

وعلى العكس من الآخرين الذين خسروا كل شيء في واقعة الحريق هذه، كان الجد محمد عبدالجليل يملك بعض الأصول التي يمكن أن يستند إليها للوقوف على قدميه مجددا. فقد كانت يمتلك عددا من مراكب الصيد التي باع بعضها ليعيد تأسيس تجارته من جديد، لكن ليس في أبوظبي.

وهكذا نرى أنه مثلما تسبب حريق دبي في ضياع حلاله وقراره للإنتقال إلى أبوظبي، فإن حريق ابوظبي وما خسره بسببه كان دافعا له للانتقال إلى جزيرة دلما حيث عاش ما بين 6 ـ7 سنوات يمارس فيها الاتجار باللؤلؤ من خلال ما تبقى له من مراكب، ويدير دكانا لتزويد الغاصة والمترددين على الجزيرة بمستلزماتهم، ويحقق النجاح تلو النجاح في عمله، ويسافر ما بين دلما وأبوظبي مصيفا في الأولى ومشتيا في الثانية كما كان يفعل الكثيرون آنذاك.

في عام 1928 تشاء الأقدار مجددًا أن يخسر الجد محمد عبدالجليل كل أملاكه، بل ويخسرها مرة اخرى بفعل الحرائق. يروي الحفيد محمد عبدالجليل الفهيم في ص 51 من كتابه تفاصيل هذه الواقعة فيقول ما مفاده أن جده كان يستضيف في منزله الملاصق لدكانه في جزيرة دلما بعض الضيوف. وفي الصباح الباكر استقيظ الطباخ وأشعل النيران لإعداد فطور الصباح ثم ترك مكانه إلى الخارج لإحضار بعض الحطب.

وفي هذه الأثناء هبت نسمة هواء قوية كانت كافية لتطاير شرارة النار إلى جدران المطبخ المبني من سعف النخيل، ثم تمددها صوب الدكان والمنزل ومنازل الجيران وصولا الى المراكب الواقفة على الساحل. وهكذا احترق كل شيء في دلما وتحولت في إغماضة عين من مركز للغوص على اللؤلؤ إلى مجرد بلدة صغيرة يسكنها نفر من الصيادين.

ويبدو أن الكارثة الثالثة في سلسلة كوارث الحريق التي لاحقت الجد، كان لها ضرر نفسي بالغ عليه، وآية ذلك أنه قرر على إثرها العودة مع إخوانه وأبنائه الأربعة إلى أبوظبي، حيث تفرغ للعبادة، تاركا لإبنه عبدالجليل وبقية أبنائه عمليه ترميم تجارة العائلة التي لم يكن قد بقي من رأسمالها آنذاك سوى مركب واحد. غير أنه إلى جانب هذا المركب كان هناك رأسمال آخر تمثل في عزيمة الابناء وشبابهم وطاقتهم وحبهم للمغامرة.

وهكذا راح أبناء الفهيم خلال السنوات العشر أو الخمسة عشرة التالية يستخدمون المركب الوحيد الذي تركه لهم والدهم في الاتجار ونقل البضائع ما بين ابوظبي ولنجة ودبي، وأحيانا إلى البحرين التي كانت تمثل حالة إزدهار خاصة في تلك الحقبة. إلى جانب التجارة مارس الأبناء وأعمامهم الغوص على اللؤلؤ، على الرغم من تراجع الطلب على اللؤلؤ وضعف مردوده.

في هذه الأثناء أخذت شركات النفط الأجنبية تبدي اهتماما أكبر بأبوظبي على أمل العثور فيها على البترول، خصوصا بعدما تم اكتشافه واستخراجه في البحرين والسعودية والكويت وقطر. وبعد توقيع الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان حاكم أبوظبي الأسبق اتفاقية النفط في عام 1935، قرر أن يبني لنفسه قصرا (يعرف حاليا بالقلعة القديمة)، فكان ذلك مشروعا غير مسبوق تطلعت إليه أبصار الكثيرين بهدف المساهمة فيه والكسب من ورائه.

وكان ضمن هؤلاء الجد محمد الفهيم وأبنائه واخوانه الذين خصصوا مركبهم الوحيد لنقل الصخور وأحجار البناء من رأس خابور إلى أبوظبي في رحلة كانت تستغرق يومين ذهابا وإيابا. وتشاء الصدف أن تتسبب هذه الرحلات المتتالية في تعرف المغفور له الشيخ زايد بن سلطان على عبدالجليل الفهيم وإرتباطهما بصداقة متينة. وملخص القصة كما رواها محمد عبدالجليل الفهيم في الصفحتين 52 53 أن الشيخ زايد قرر في إحدى رحلاته ما بين أبوظبي والعين أن يتنقل في جزء منها بالبحر، فصادف أن رأى مركب الفهيم في رأس خابور وهو على وشك الانطلاق نحو أبوظبي فركب معهم. وفي المركب تعرف سموه على الوالد عبدالجليل وأعجب بسعة إطلاعه وأيضا بمهارته في الكتابة والقراءة التي كان سموه يبحث عنها لحاجته إليها، فما كان من الشيخ زايد إلا وأن عرض عليه القدوم إلى العين للبقاء بجانبه. وبعد عدة أشهر قرر عبدالجليل الفهيم الإنتقال إلى العين ليصبح سريعا واحدا من أصدقاء الشيخ زايد ومستشاريه المقربين، ولتستمر العلاقة التي بدأت بينهما في البحر في منتصف الثلاثينات إلى تاريخ وفاة الفهيم الأب في عام 1996.

في عام 1946 تزوج عبدالجليل الفهيم في مدينة العين وانجب بنتا في العام التالي، وفي عام 1948 رزق بإبنه محمد (مؤلف الكتاب) الذي يصف أبوظبي في عام 1950 وطوال السنوات التالية بالمشيخة البدائية ذات العدد القليل من السكان، مضيفا أن عدد سكان جزيرة أبوظبي بلغ في أفضل الأحوال 6000 نسمة فقط، وكان ذلك في بدايات القرن العشرين، ثم انخفض في منتصف الخمسينات إلى ثلث ذلك العدد بسبب الهجرات المتتالية إلى العين وواحة ليوه وإمارات الخليج. ومن الاشياء التي أتى على ذكرها في وصفه للحياة في أبوظبي قديما، قوله أن الانتقال إلى الامارات الشمالية مثل دبي والشارقة ورأس الخيمة كان يتم بالمراكب، وأنه حتى الخمسينات كان امتلاك السيارات مقتصرا على عدد محدود من الشيوخ، بل لم تكن هناك طرقات صالحة لتسير عليها السيارات، وبالتالي كان إعتماد غالبية السكان على الجمال في تنقلهم من مكان إلى آخر. ومن الجزئية الأخيرة ينطلق محمد عبدالجليل في ص 54 ليحدثنا بشيء من التفصيل عن حادثة وفاة جده وجدته، قبل ولادته بعام، أثناء رحلتهما على ظهور الجمال من العين إلى أبوظبي، معزيا السبب إلى طول الرحلة والإعياء الناجم عن تعرضهما لضربة شمس قوية.

أما عن منازل ابوظبي في تلك الحقبة فقد كانت، بحسب قوله، عبارة عن برستيات وأكواخ مصنوعة من سعف وجذوع النخل، باستثناء منازل الشيوخ التي كانت مبنية من الطين. وفي الصفحات من 55 إلى 57 يحدثنا عن صراع سكان أبوظبي وما جاورها للتكيف مع شظف العيش، وقسوة المناخ صيفا وشتاء، وقلة فرص العمل، وانتشار الأمراض، وانعدام الخدمات التعليمية والصحية، وصعوبة الحصول على الطعام الصحي المتنوع وغير ذلك مما عاصره جيلا الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

على أن طفولة محمد عبدالجليل الفهيم، رغم هذه الحقائق، لم تكن قاسية كطفولة أقرانه لسبب بسيط هو أنه ترعرع وشب في قصر الشيخ زايد القريب من منزل والده في العين، والذي كان يقيم به الشيخ وحرمه وإبنهما الوحيد آنذاك الشيخ خليفة الذي ارتبط الفهيم معه بصداقة لتقارب سنهما. يقول الفهيم أن ترعرعه في قصر الشيخ زايد حرر والدته، على الأقل، من عبء طفل من أطفالها الثلاث، وأتاح لها وقتا اكبر لإدارة شؤون منزلها.

وفي حادثة تكشف المآسي التي كانت تقع في الإمارات بسبب إفتقارها للخدمات الصحية، يروي محمد عبدالجليل كيف أن أخاه الأصغر البالغ من العمر ست سنوات كان يلعب صبيحة أحد الايام مع أخته ذات السنوات الثلاث في حديقة المنزل فعثر على علبة كبريت غير مستعملة وبدأ باشعال عيدان الثقاب ورميها فسقط أحدها على ملابس أخته فاصيبت الاخيرة بحروق خطيرة. وبطبيعة الحال لم تكن هناك عيادات أو اطباء أو مستشفيات لعلاجها إلا في الشارقة، اي على مسافة يومين بالسيارات. ويضيف أن «خبر مصابنا وعجزنا عن علاج أختنا الصغيرة بلغت مسامع الشيخ الزايد، فأعارني سموه سيارته من نوع اللاندروفر مع سائق لنقلي مع أبي وأمي وأختي المصابة إلى مستشفى القاعدة العسكرية البريطانية في الشارقة للعلاج، لكن مشيئة الله كانت اسرع فماتت الصغيرة قبل الوصول إلى الشارقة»، لتتكرر قصص عائلة الفهيم المأساوية مع الحرائق.

بعد وفاة ابنته الصغيرة بدا عبدالجليل الفهيم أقل رغبة في التنقل والحركة، هو الذي كان منذ تعرفه على الشيخ زايد مرافقا لسموه في أسفاره ورحلاته واجتماعاته مع القبائل والأعيان، وقرر أن يعود إلى حياة الروتين اليومي من خلال إفتتاح متجر يبيع فيه المواد الغذائية والأقمشة. ثم أتى بأخيه الأكبر ليدير المتجر. لكن الأخير كان لا يجيد القراءة والكتابة، ويعتمد على ذاكرته في حفظ أسماء المشترين بالأجل. أما المبالغ المستحقة على كل منهم فكان يعتمد في حسابها على صف حبيبات القهوة أمام أسمائهم المحفوظة في الذاكرة. وكان من نتائج هذه العمليات التجارية غير المنضبطة أن قام عبدالجيل الفهيم باغلاق محله خلال عام كيلا يتكبد المزيد من الخسائر.

يتحدث المؤلف في ص 56 عن ظروف المرأة الإماراتية في خمسينات وستينات القرن العشرين فيقول ان إهتماماتها وأنشطتها كانت محصورة في تربية أطفالها ورعاية شؤون منزلها وجلب الماء والحطب وحلب أغنامها وأبقارها وتسلق النخيل لجني الرطب والتمر وإعداد وجبات الطعام البسيطة المكونة في الغالب من السمك والأرز.

كما يخبرنا أن والده عبدالجليل، رغم النكسات التي تعرض لها على الصعيدين العائلي والتجاري، لم يتراجع عن المغامرة والوقوف على قدميه والتجربة من جديد. وآية ذلك أنه بمجرد أن رأى الشاحنات تغزو أبوظبي، قرر الدخول في أعمال النقليات عبر شراء أو استئجار عدد من الشاحنات التي لم تتوقف عن العطب بسبب الطرق الوعرة وعدم توفر قطع الغيار والصيانة آنذاك.

وعن دراسته يقول أنه تعلم القرآن وشيئا من الكتابة في مدرسة بدائية كان يديرها «الملا درويش كرم»، مضيفا أن مدرسته كانت عبارة عن برستي يخلو من الطاولات والمقاعد والسبورة، دعك من المقررات والقرطاسيات والحمامات ومياه الشرب. ثم يتحدث عن المدرس الفلسطيني الذي جيء به من الاردن للتدريس في المدرسة الوحيدة التي أنشأها الانجليز في ابوظبي في عام 1959 من ست غرف. فهي لئن كانت بها طاولات ومقاعد وأسقف وجدران، فإنها كانت تخلو من الحمامات ومياه الشرب والكتب والكراريس. ويأسف الفهيم لحال المدرس الفلسطيني الذي لم يجد مكانا يسكن فيه إلا أحد الفصول، عارجا على المصاعب التي كان يواجهها لجهة معرفة سن الطلبة واسمائهم الكاملة كي يقوم بتقسيمهم الى مجموعات، حيث كان معظم الطلبة لا يعرفون تواريخ ميلادهم ولا يعرفون حتى أسماءهم الكاملة.

الصدمة الحضارية الأولى التي تلقاها محمد عبدالجليل الفهيم كانت بحسب قوله في الصفحات من 88 الى 89 في البحرين التي وصلها مع والده جوا بواسطة إحدى طائرات شركة الخليج للطيران Gulf Aviation في عام 1961 لرد الزيارة لآل كانو الذين كان عبدالجليل الفهيم استضافهم في منزله حينما زاروا أبوظبي في العام نفسه من أجل التفاهم، دون جدوى، مع الشيخ شخبوط حول افتتاح فرع لأنشطتهم في الملاحة والشحن. يقول الفهيم «كانت زيارة البحرين مثل الانتقال إلى كوكب آخر»، ويضيف: «كان كل شي فيها حديث: الطرق والشوارع الفسيحة المزودة بإشارات المرور والمباني العالية، وكانت هناك فنادق بغرف مكيفة وقاعات طعام واسعة ومطبخ متنوع. أما الأسواق فقد كانت مزدحمة وعامرة بشتى اصناف البضائع المستوردة من اقمشة ومجوهرات والعاب واجهزة مذياع وادوات منزلية ومواد غذائية وأثاث». ويصف ميناء المنامة قائلا أنه كان كبيرا وبامكانه استقبال عدة سفن في آن واحد، فيما كانت الشاحنات تدخل اليه فارغة وتخرج منه محملة بأحمال البضائع الثقيلة. ويصف مكاتب آل كانو بقوله أنها كانت مزودة بالكهرباء وطاولات الاجتماعات والمكيفات والآلات الكاتبة والهواتف والمصاعد ومكاتب السكرتاريا والمحاسبين وغير ذلك مما لم تكن الإمارات قد عرفته بعد. ويعزي الفهيم تقدم البحرين العمراني والخدمي واسبقيتها في التعليم والطبابة وخدمات الفندقة والمصارف والترفيه ودخول الكهرباء والهاتف، وابتعاث الطلبة إلى جامعة بيروت الأمريكية وإنشاء الاندية الرياضية والثقافية إلى اكتشاف النفط فيها في تاريخ أبكر من كل دول المنطقة الأخرى، وإستثمار عوائده في التنمية، فضلا عن حقيقة كون البحرين منطقة جاذبة منذ القدم للمشتغلين في الغوص على اللؤلؤ.

أما ما خرج به والده عبدالجليل من البحرين فقد تمثل في ما سيشكل لاحقا حجر الزاوية في ثراء العائلة. حيث عزم الوالد عبدالجليل وهو في البحرين أن يدخل قطاع الاتجار بقطع غيار السيارات، ولاسيما سيارات اللاندروفر التي كانت تزداد عددا في أبوظبي مع تواصل أعمال التنقيب عن النفط، وكانت بحاجة إلى من يوفر قطع غيارها. وفي فترة لاحقة قرر الفهيم الأب أن يستورد بضائعه مباشرة من بريطانيا بدلا من الوكيل البحريني، إستجابة لنصيحة البنك البريطاني للشرق الأوسط الذي شجعه أيضا على السفر شخصيا إلى لندن لهذا الغرض، فسافر الرجل لأول مرة إلى اوروبا برفقة المحاسب في البنك البريطاني سعيد ناصر كمترجم. وهناك لم يتفق الفهيم على شحنات قطع الغيار فحسب وإنما قرر أيضا استيراد دفعة من شاحنات «بيدفورد»، تلتها دفعات أخرى.

ويقول المؤلف الذي تلقى الصدمة الحضارية الثانية في بريطانيا التي سافر إليها مع اخيه عبدالله في منتصف الستينات لدراسة اللغة الانجليزية بعيد اختياره من قبل الوكيل السياسي البريطاني لهذه المهمة، وتكفل الشيخ زايد مصاريف رحلته ودراسته واقامته، إنه بعد عودته من تلك الرحلة كان الشيخ زايد قد تولى الحكم في أبوظبي، فهاله ما رآه من تطورات وحراك تنموي لم يكن ليتم لولا حكمة الشيخ زايد وسياساته في إسعاد مواطنيه، وإعتماده على السواعد الوطنية التي عادت من دول الجوار بخبرات ومؤهلات متنوعة وبعض المدخرات. كما يخبرنا أنه تولى شخصيا أعباء تجارة والده بعدما تفرغ الأخير لمساعدة الشيخ زايد وهو يخطو بأبوظبي قدما إلى الأمام، فعمل جاهدا على النهوض بتلك التجارة عبر توفير كل ما كانت أبوظبي في حاجة إليه وهي تخوض معركة البناء والتحديث. فقد بنى الورش والكاراجات ومرافق الصيانة، وضاعف من استيراد إطارات السيارات والبضائع الأخرى ذات الصلة بحركة النقل، ودخل مشاريع البناء والإنشاءات وتوفير الخدمات الفندقية التي لم تكن موجودة أصلا، وخاض معركة بناء المجمعات التجارية والسكنية، خصوصًا مع الدعم المتوالي الذي كان يقدمه الشيخ زايد للمواطنين لتأسيس أنفسهم.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *