حلب: ‘سكوت ح نصوّر’!/ محمد قواص

تعزف واشنطن وموسكو لحناً واحداً: يعمل الروس على تحقيق ‘الإنجاز’ بالتحالف مع جند دمشق و’حرس’ طهران، فيما يعمل الأميركيون على إسكات أي ضجيج محتمل قد يعرقل محركات الورشة الحلبية.

3816

حين أفرجت الاتصالات الأميركية الروسية عن تفاهم على “نظام الصمت” في منطقتي دمشق واللاذقية، فهم أي مراقب أن واشنطن وموسكو متواطئتان تماماً في “إنجاز” معركة حلب. فاستئناف ووقف إطلاق النار في الميادين السورية يتعلق، منذ تثبيت الهدنة “العجيبة”، على قرار جديّ روسي أميركي، وأن عدم شمول “نظام الصمت” لمدينة حلب يعني أن هناك الكثير ما يقال هناك.

توفّر روسيا للولايات المتحدة عرضاً مغرياً ينأى بواشطن عن أي تورط في الوحول السورية. لا يريد الرئيس الأميركي باراك أوباما ذلك ولا تملك إداراته وأركان مؤسسات البلاد الأمنية والعسكرية أي خطط تناقض خطاب البيت الأبيض. وما فتئت منابر واشنطن الرسمية تعيد وتكرر أن العلّة تكمن في نظام ودمشق ورئيسه، لكنها لن تحرّك ساكناً إذا ما قيّض لهذا النظام الصمود والقضاء على معارضيه، وبطبيعة الحال لن تعارض مسعى روسي مجاني في هذا الصدد.

“معركة حلب” وفق تعبيرات النظام السوري هي أساسية لقلب الخطّ البياني المهدد لدمشق نهائياً. ونفس المعركة هي تعبيرٌ عن استراتيحية روسية في وضع “سوريا المفيدة” ضمن الخريطة الإستراتيجية لموسكو، كما أنها الوسيلة المرتجاة لإعادة تشكّل عملية جنيف وفق شروط جديدة تمرر ما لم تمرره المعارضة المنسحبة من جولة المفاوضات الأخيرة.

في حسابات دمشق وموسكو وطهران وواشنطن، وربما أيضاً عواصم عربية أيضاً، فإن حلب باتت مفترقاً ستتحددُ بعده وجهة سوريا المقبلة. ولأن المدينة باتت حساباً سياسياً تُقاس في آخره الأرباح والخسائر، فإن الكارثة البشرية والمدنية والحضارية التي تهبّ على “الفيحاء”، هي تفصيل تضجّ به وسائط الإعلام التقليدي والإجتماعي، فتزيد مشاهد الكوارث، لا سيما في سوريا، مشهداً آخر، دون أن تمنع بيانات الإدانة الخجولة هنا وهناك آلة الموت من حصد الأرواح، وربما حصد الانجازات لصالح إرادات كبرى.

يمنع “نظام الصمت” ريفي دمشق واللاذقية عن القيام بأي ردّ موجع ضد ما يحدث في حلب. تعزف واشنطن وموسكو لحناً واحداً، بحيث يعمل الروس على تحقيق “الإنجاز” بالتحالف مع جند دمشق و”حرس” طهران وميليشياتها المستوردة، فيما يعمل الأميركيون على إسكات أي ضجيج محتمل قد يعرقل محركات الورشة الحلبية. والمفارقة أن “نظام الصمت” المؤقت بساعات عديدة (72 ساعة) يعمل بانضباط كامل، بحيث تلتزم كافة الأطراف بتفاهمات محلية تغمض العين عن المدينة التي تحترق.

لا ينفع أن يتسرب من سطورنا غضب، فذلك محسوب من قبل أهل الحل والربط ومدرج ضمن المتوقع في خطط الغرف الكبرى. والأجدى أن نحاول من خلال العقل فهم ما لا يمكن أن يحتمله وجدان. قيل أن حلب تُعاقب بسبب انسحاب وفد الهيئة العليا للتفاوض المعارض من مفاوضات جنيف. لا شيء عقلاني يوحي أن إحراق المدينة يعادل “إثم” التمرد على الإرادات الكبرى في نصب خيمة التفاوض في المدينة السويسرية. ثم إن المعارضة عللت ذلك الانسحاب بأنه لا يمكن الانخراط في غرف جنيف الفارهة، فيما الموت يحصد الناس في زواريب سوريا، فكيف لموت مستمر أن يقنع المعارضين للانضباط وطاعة أولي الأمر من جديد؟

إذا لم تحمل الساعات المقبلة موقفاً جدياً عملياً من قبل عواصم إقليمية رداً على ما يحاك لحلب، فإن التفسير الوحيد المتبقي أن أمر المدينة أضحى خارج الحسابات الإقليمية تلك، ربما لأسباب لوجيستية تجاوزت قدراتها أو لقناعة بأن قراراً دولياً يغطي نيرانها، أو ربما أيضاً، بسبب ضمانات معيّنة أُبلغت بها من قبل واشنطن وموسكو بأن تفصيل حلب لن يؤثر على تفاهمات سابقة حول مستقبل النظام السياسي في دمشق ومصير بشار الأسد.

لا تملك المعارضة السورية معطيات كبرى، لا من الدول الكبرى ولا من تلك الإقليمية الداعمة، تبرر فتح معركة ثاني أكبر مدينة في سوريا، بعد ساعات على اقفال جولة المفاوضات في جنيف. إلا أن ما تسرّب من تقرير الموفد الدولي ستيفان دي ميستورا المرسل لمجلس الأمن، يفيد أن الوفود المعارضة أجادت الضجيج دون أي حجيج. الخلاف ما زال في أصل العلّة وليس في هوامشها: مصير الأسد.

يوحي المبعوث الأممي أن وفود المعارضة ما زالت غير جاهزة لهضم الطبخ الدولي بقيادة موسكو وواشنطن. ويوحي، من خلال الاجتماعات المطوّلة مع وفد النظام، أنه يلاحظ مرونة في فكرة “الانتقال السياسي” التي بالإمكان تطويرها بساعات وساعات أخرى من المحادثات.

باختصار تواكب روسيا والولايات المتحدة سعياً لتمرير حلّ يقترب كثيراً من أطروحات رئيس وفد النظام بشار الجعفري وصحبه. وما يطرحه الرجل لا يبتعد عما تمّ طرحه في بدايات الأزمة قبل خمس سنوات. يقدّمٓ الأمر هذه المرة على أنه تبدّل كبير في موقف دمشق، من حيث القبول بـ “الانتقال السياسي” من خلال حكومة تضم النظام والمعارضة ومستقلين، على أن تبقى دفة العملية في يدّ رئيس النظام في دمشق. في ذلك يجتهد وفدا “معارضة موسكو” و”معارضة القاهرة” في اجتراح خيارات تكميلية بقيام مجالس سياسية وعسكرية مواكبة، فيما في جيب الوسيط الدولي ورقة مجهولة المصدر كان اقترح مضمونها سابقاً وتختبر فكرة تعيين عدة نواب للأسد بصلاحيات تُقتطع من صلاحيات الرئيس.

والظاهر أن ورشة جنيف وقناتها الخلفية في لقاءات الأميركي روبرت مالي والروسي ألكسندر لابرنتييف، قد أينعت ثماراً يقتضي حصادها إخضاع حلب والمعوّلين على بقائها تحت سيطرة فصائل المعارضة ورعاتهم الإقليميين. والظاهر أيضاً ان الولايات المتحدة تسير في الدروب التي ترسمها موسكو بالتحالف مع طهران في هذا الصدد، على النحو الذي جعل التدخل الإيراني علنيا، لا سيما على جبهات حلب، تعلنه منابر الجيش الإيراني (وليس الحرس الثوري)، دون أن يقابل ذلك أي استهجان يذكر، لا من قبل واشنطن ولا من قبل أي عاصمة أخرى ناكفت إيران للتوصل للاتفاق النووي الشهير.

في الساعات الأخيرة بثت وسائط التواصل الإجتماعي فيديو يعرض ما قيل أنه خطاب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعلن فيه أن بلاده ستتدخل لحماية حلب. يحمل الفيديو شعار قناة “روسيا اليوم” ويعبّر في مضمون الخطاب عن إدانة لموقف الجامعة العربية وإعلان عن تحرك سلاح الجو التركي فوراً لفك الحصار عن حلب. بعد ذلك سارعت المواقع الإخبارية القريبة من تركيا، وأكثرها عربي، لنفي ذلك والتأكيد أن الفيديو مفبرك. وقد لا يهمنا الفعل بقدر ما يختزنه ردّ الفعل. تركيا التي كانت تعتبر حلب جزءا من حدائقها الخلفية الإستراتيجية تنفي، من خلال مريديها في المنطقة، أي مزاعم عن تدخل لنصرة المدينة. واضح أن هناك صمتاً مطلوباً يوازي “نظام الصمت” المعلن لتمرير ضجيج حلب.

نقلا عن میدل ایست اونلاین

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *