ميشال سماحة: الخيط الرفيع بين الفجور والعفاف!/محمد قواص

يمثّل الحكم على ميشال سماحة، حتى في بعده المحلي الضيّق، أول إدانة قضائية للنظام الأمني السياسي الذي قادته دمشق، ومن ورائها طهران.

3632

حين أطلقت المحكمةُ العسكرية سراح ميشال سماحة أوائل هذا العام، تصرّف الرجل وكأنه أسير محررٌ عانى من ظلم وينتظر استقبالاً يليقُ بالأبطال. لا عجب من ذلك فمعسكره الممانع لطالما تهرّب من موقف واضح إزاء جريمة موصوفة ثبتت بالوثائق والصور صوتاً وصورة ومنطقاً، بما يشي أن الوقائع تخضع لوجهات نظر تتبدلُ وفق هويات المجرمين وهويات الضحايا.

لا تختلفُ جريمة ميشال سماحة عن الجرائم التي ارتُكبت في لبنان برعاية النظام السوري، منذ البدايات الأولى، اللاحقة والسابقة، لجريمتيّ اغتيال كمال جنبلاط والمفتي حسن خالد، انتهاء بتلك التي طالت الراحل رفيق الحريري واللائحة التي طالت من بعده. وبالتالي فإن نظام دمشق وحلفاءه كان يعتبرُ أمر القتل سلوكاً سياسياً “عاديا”، لا سيما حين لا تُقابل تلك الجرائم بالردّ والقصاص الرادعيْن.

انتقل ميشال سماحة من موقعه كصقر داخل حزب الكتائب اللبنانية إلى صقر داخل المعسكر المطبّل لنظام دمشق في لبنان. وفي الرحلة بين المنطقين لم يرمش جفن سماحة لحظة واتّبع درباً انتهازياً يجوز داخله قلب قناعات والانقلاب على صداقات. والحقّ يقال أن في سلوك سماحة اللاخلاقي انسانياً وجهة نظر يبررها ماكيافيلي في معادلاته السياسية خدمة لـ “الأمير”، وبالتالي فإن أداء الرجل روتيني عادي في عالم السياسة الواقعية المقيت.

سلك سماحة خيارات جعلته قطباً حيوياً داخل الحاشية المواكبة لزعامة بشار الأسد، ليس في لبنان فقط، بل في مقاربة العالم أجمع. تقلّد الرجل اللبناني مناصب وزارية في حكومات الوصاية السورية في بيروت، مواكبة مع مهامه كمستشار مقرّب للرئيس السوري وكرجله الوفيّ في اختراق الدوائر الغربية. كان سماحة في ذلك يدافع عن قضيته الشخصية والتي تكمن في الامعان في تحصين انحرافاته من خلال عادية ارتكاب انحرافات أخرى.

لم يذهب ميشال سماحة في إثمه بعيداً دفاعاً عن نظام الأسد في دمشق فقط، بل صوناً وتدعيماً وتوسلاً لبقائه قطباً لا يُحاسب في لبنان. يعرف الرجل وأشباهه، وما أكثرهم على قارعة الطريق منذ أن تلاشت وصاية دمشق بمغادرة جندها لبنان، أن لا مستقبل له في البلد دون رعاية الرعاة في دمشق، ولا أمل له بعودة إلى الواجهة إذا ما سقط نظام الأسد أو تبدلّت عجينة النظام هناك. وبالتالي فإن حمْلِه متفجرات تطيح بأحياء وشخوص وحيوات، إضافة إلى تسعيرها فتنة طائفية ومذهبية بين العباد، لهو جهاد أصيل من أجل “قضايا كبرى” يجوز من أجلها زهق الأرواح الصغرى.

نعم الرجل لا يعتبر نفسه مجرماً بل مناضلاً ملتزماً يدافع عن قضية نبيلة. فقط في اللحظات الأولى لإعتقاله، وتحت ضغط الدلائل والإثباتات التي لا تقاوم، ارتبك الرجل أمام اللواء وسام الحسن الذي داهمه بالدليل القاطع (أغسطس 2012)، فعبّر عن ندم معترفاً بالجريمة. وحين إغتيل الحسن كرمى لعين سماحة، استعاد المجرم أنفاسه وتذكّر من جديد أنه مناضل مجاهد يتحرّك “ربْعُه” لتحريره على مشارف سجنه المقيت.

الجريمة هي وجهة نظر. اغتيال رفيق الحريري هو وجهة نظر يجوز حولها الإنقسام بين غاضبٍ مدين للقاتل ومتفهمٍ شاكر لنعمته. لم يخطئ سماحة كثيراً في وجهة نظره تلك. أطلقت المحكمة العسكرية سراحه بناء على “وجهة نظر” تقنية لم تجد في أوراق الدعوى ما يحول دون ذلك، وحين سببت الفضيحة غضبا، أعادت نفس المحكمة التمييز وفق”وجهة نظر” أخرى تجدُ أن جريمته تستحق حكماً بالسجن لمدة 13 عاماً. وربما سهى عن بال الكثيرين، أن جريمة سماحة وجريمة اغتيال اللواء وسام الحسن الملحقة بها، تسببت في زهق أرواح وترويع مدينة وتهديد أمن بلد بالمعنى الأهلي والجزائي، على ما يجعل من العقوبة وضيعةً تروم تطييب خواطر الغاضبين دون كسر الجرة مع “المتفهمين”.

على أن حكم المحكمة العسكرية الأخير ضد ميشال سماحة معطوفاً على ردود فعل المرحّب والمتحفّظ والمدين، لم تلحظ أن أمر الجريمة صدر من دمشق، وبأمر من رئيس النظام هناك، حسب اعترافات سماحة نفسه الذي نقل عن اللواء علي المملوك أن لا أحد يعرف “إلا أنا والرئيس”. بمعنى آخر، فإن بلادةٓ الحكم أرادته محلياً لا ينخرطُ في السياقات الحالية التي تناقش مصير الأسد ومستقبل سلطانه في دمشق، فذلك أيضاً يخضع لوجهة نظر تجعل من أمر عملية سماحة متّسقاً مع أمر عمليات يقذف بالبراميل على مدن سوريا دفاعا عن قضية النظام الممانع في دفعه لـ “المؤامرة الكونية” عنه.

على أن المتّهم الذي ثبتت إدانته إلى حدّ الحكم عليه بالسجن 13 عاماً، وبغضّ النظر عن نقاش تٓناسُب الإثم مع القصاص، أيقظ الإفراج عنه قبل أشهر شكوكاً سعودية بالمؤسسة العسكرية، على حدّ تعبير وزير خارجية الرياض عادل الجبير، حفّزت قراراً بوقف الهبة الشهيرة للجيش اللبناني. أثار الحدث أيضاً زوبعة داخل غرف الحريرية السياسية، ليس في استنكاره والذهول من وقعه، بل في وسائل مقاربته، على ما يشي الاحتكاك المعلن/المبطن بين الرئيس سعد الحريري والوزير أشرف ريفي. كشف الأمر أيضاً عن أزمة حرج وصمت وارتباك داخل صفوف “8 آذار” تعكس وهن مناعة الحلف الممانع وتصدّعه تأثراً بما يُستشرف لمستقبل النظام في دمشق.

بمعنى آخر، سيخرج سماحة من سجنه ليكتشف نهاية عهد وتقادم اصطفافات وتبدل خرائط. يمثّل الحكم على ميشال سماحة، حتى في بعده المحلي الضيّق، أول إدانة قضائية للنظام الأمني السياسي الذي قادته دمشق، ومن ورائها طهران، بما يجعل من ذلك سابقة تفتح أبواب انسحابها على رؤوساً تتجاوز تلك التي تحاكمها المحكمة الدولية الخاصة بإغتيال الرئيس الحريري باتجاه طبقة حاكمة في دمشق ستقصيها حكماً مداولات جنيف حتى في روايتها الروسية. فقد لا يجد الرعاة مناسباً رعاية منظومة معروفة الشخوص في دمشق أعطى رئيسها بالأمس أمر جريمة يقبع صاحبها هذه الأيام سجيناً في بيروت.

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *