نفهم الرياض.. افهموا بيروت!/محمد قواص

قاوم اللبنانيون بما يمتلكون، وبما يعرفون، جهود الهيمنة الإيرانية التي تشكو منها الرياض في لبنان.

حين صدر عن الرياض ما يعبّر عن غضب سعودي من لبنان، أفرجت بيروت عن تساؤل يتعلق بالصبر الذي تحلّت به المملكة تاريخياً لرعاية لبنان في ما توالت عليه من أزمات. بدا أن اللبنانيين، لا سيما أؤلئك الذين يعتبرون السعودية صديقة، قد اكتشفوا من خلال “العقوبة” السعودية مزاجاً جديداً بشأن مقاربة لبنان يتناسلُ من مزاج عام تتنفسه الإدارة السعودية الجديدة في كل ملفات المنطقة.

226730

تحمّلت السعودية سهام اللبنانيين منذ عهود. اعتبرت المملكة لبنان مخلوقاً استثنائياً يجوز له ما لا يجوز لغيره. قاربت المملكة البلدَ بروح أبوية تتحمل نزق الأطفال، سواء كان النزق في السابق عروبيا قومياً أو يسارياً ثورياً، أو ممانعاً يتبع تقليعات الوليّ الفقيه هذه الأيام.

على أن شروط العصر، في جغرافيته الواسعة أو في تلك التي تتحدد داخل حدود المملكة، أضحت تطالب بتبيان الخطّ الفاصل بين الصديق والعدو. ألم يتساءل زعيم أكبر دولة في العالم يوماً “من معنا ومن ضدنا؟”، فما الضير من أن تعرف الرياض ذلك الآن وتعامل العالم وفق ذلك أيضاً؟

قد تتكامل القرارات الرسمية السعودية الأخيرة مع مناخ غير رسمي معادٍ للبنان أفرجت عنه الصحافة السعودية مؤخراً. وكانت تلك الصحافة قد مررت، قبل ذلك، غضباً ضد “الحليف” المصري الذي لا يتّسق موقفه مع “كرم” المملكة ومظلتها السياسية التي وسّعتها لرعاية انتاج النظام السياسي المصري الحالي. بمعنى آخر، فإن بعض صحافيي السعودية كانوا يعبّرون عن تيار داخل المملكة قد ضاق ذرعاً من التعامل مع السعودية بصفتها خزينة عمياء توزّع العطايا دون سؤال. لسان حال ذلك التيار يقول: نريد التعامل بعلم الحساب.

مقابل “ظلم ذوي القربى” الذي تشكو منه السعودية والذي نفهمه ونوافق عليه كلبنانيين، قد يجوز التذكير ببعض الأمور، التي لا شك أنها غير غائبة عن بال السعوديين في حُكمهم ونُخبهم ورأيُهم العام. فقد خرج اللبنانيون بأجسادهم العارية قبيل وبعد “14 آذار” 2005 يواجهون الهيمنة السورية، وخلفها تلك الإيرانية، في وقت لم يكن يبدو أن مزاجاً إقليميا ودولياً يغطي تلك المواجهة. شكّل أمر ذلك، والتحالف الذي وُلد عنه، على ما يبدو، خطراً وجودياً على خطط دمشق وطهران في لبنان، لدرجة الردّ بسلسلة الإغتيالات المعروفة، والتي قد تستأنف في أي وقت، وفق أجندة القَتَلة وحدهم.

قاوم اللبنانيون بما يمتلكون، وبما يعرفون، جهود الهيمنة الإيرانية التي تشكو منها الرياض في لبنان. جاء ردّ تلك الهيمنة شفافا واضحاً وقحاً، من خلال استخدام السلاح والتبجح بفائضه، على النحو الذي أرسل إشارات إقليمية عن نوعية المعركة وشروط النزال. فهم اللبنانيون من خلال الضغوط التي مارستها الرياض على رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري لزيارة دمشق، كما من مبادرة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بمرافقة الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق إلى بيروت، ما يشبه التسليم بالأمر الواقع والتعامل معه بصفته قدراً تجوز المرونة في مقاربته.

لا يمكن تحميل اللبنانيين وحدهم “ذنب” الخضوع لقرار إيران وأجندة قيادتها. تصرّفت طهران في لبنان وفق ما أدركته جراء لجوئها للمداخل القصوى والردّ عليها بالمداخل الدنيا، فكان أن اخترقت ما هو متاح لا مناعة تحميه. فهمت بيروت، أن العصر الإيراني الذي تهللُ له واشنطن وينقسم العرب حوله في محافلهم الرسمية، ينسحبُ على فضائهم قدراً لا طائل لها على معاندته. ثم ألا يعتبر إغتيال رفيق الحريري ونفيّ نجله سعد، وهم الحلفاء الأُول للسعودية في لبنان، دليلاً على تقدّم نفوذ وانسحاب آخر؟

ذهب اللبنانيون إلى المواجهة فأكتشفوا أنهم وحدهم، لا بل إن مزاجاً حليفاً يدفعهم لطيّ الصفحة والذهاب للمصالحة. لم يدركوا الأمر للوهلة الأولى، فعاندوه، لكنهم فهموه بعد أن تكررت الخيبات في بيتهم وتكرر صمت الجيران. أفاق اللبنانيون هذه الأيام على غضب سعودي لم يسبقه عتبٌ أو تأنيب أو تحذير ينذر “الجاني” قبل صفعه. والحقيقة أنها صفعة لا سابق لها في تاريخ علاقة السعودية ولبنان، وقد قلبت معادلة لطالما استكان اللبنانيون إليها على مرّ العقود.

فهم اللبنانيون الحدث السعودي وفق ما يريدون فهمه. منهم من رأى فيه انسحاباً يشبه التسليم بخسارة الموقع اللبناني لصالح اختراق إيراني لم يعد بالإمكان صدّه، مذكرين بالإهمال المالي الذي طال المؤسسات السياسية والإعلامية والإجتماعية القريبة تاريخياً من الرياض، مقابل ضخامة ما تستثمره إيران في دعم حلفائها. ومنهم من رأى في الأمر مواجهة مع الحالة الإيرانية على منوال تلك التي تخوضها السعودية في ميادين التماس من اليمن لسوريا، وهو أمر قد توحي به أيضاً عودة الرئيس الحريري إلى بيروت. فإذا كان الغضب انسحاباً، فلا عتب على اللبنانيين أنهم باتوا محرومين من وسائل المقاومة وسبل الصمود، وإذا ما كان الغضب مواجهة، فالأمر شديد الحساسية داخل ذلك النسيج الطائفي المتمذهب، الذي تحتاح المواجهة داخله، ومن خلاله، إلى جديّة بعيدة عن الإنفعالات.

يحتاجُ لبنان إلى دعم المملكة العربية السعودية واستمراره، في ذلك ضمان لديمومة الفكرة اللبنانية وتمتين لغطاء يقي المدافعين عن البلد وفكرته. لا يمكن للرياض أن تقارب لبنان بصفته واقعاً مستقلاً عن الكارثة السورية، وربما لا يمكن للرياض أن تناكف الهيمنة الإيرانية في لبنان بمعزل عن معركتها ضد النفوذ الإيراني في اليمن. فإذا ما كان ردّها في اليمن هو دعم اليمنيين على ما أفصحت “عاصفة الحزم”، فحريّ بالمملكة أن لا تتخلى عن اللبنانيين صوناً لموقع سعودي أصيل في هذا البلد مقابل حداثة ذلك الإيراني وعرضيته.

محمد قواص

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *