سوريا: سقوط المرشد وصعود القيصر! / محمد قواص

القوى الإيرانية وتلك التابعة لإيران في الساحة السورية باتت جزءا من الجهد الروسي ويخضع وجودها من عدمه لخطط موسكو وحدها.

406D50E8-0666-49D5-8D77-E8BBD4652742_mw1024_mh1024_s

في المؤتمر الصحافي “العملاق” الذي عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا، ولعدة ساعات، بدا سيّد الكرملين مرتاحا واثقا مزهوا بما حقّقه لحكمه ونظامه وبلده منذ تدخله العسكري في الميدان السوري.

لم تكن هذا الإطلالة مع الصحافة إلا شكلا من أشكال الاحتفال بانتصارات تحققت وإنجازات سجّلت، ما يدعوه للتباهي بمهارته في التعاطي مع التحديات الدولية، وترويضها وجرّها نحو ملعبه، على ما كشفته وقائع سوريا حاليا، وتلك في جورجيا وأوكرنيا قبل ذلك.

وفي ما أفصحت عنه تصريحات الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني مؤخرا ما يعبّر عن أزمة نظام تشهدها إيران، يعكس الجدل الداخلي، في أروقة القرار وأصحابه، تحريا لوظيفة البلد وموقعه منذ “تدجينه” في ثنايا سطور الاتفاق النووي، ونقاشا لتكتيكات الحكم ومعسكراته في التدخلات الإقليمية من اليمن وانتهاء بلبنان مرورا بالعراق وسوريا.

وما إثارة رفسنجاني لموضوع انتخاب مرشد جديد للثورة الإسلامية، على الرغم من وجود المرشد الحالي، إلا مباشرة لجدل قديم-جديد حول لزومية وشرعية ووظيفة وشخص الوليّ الفقيه في إيران.

تبدو المناورة الروسية في سوريا منتجا يُقبل عليه، بما يشبه الإجماع، الكثير من الزبائن. يقوم المجتمع الدولي، بشكل حاسم واضح، رغم بعض التصريحات الغربية المملّة، برعاية الجهد العسكري الروسي ومحضه بما يحتاج من مستلزمات دبلوماسية رديفه. يذهب مجلس الأمن لتسليح المسعى الروسي بترسانة قانونية داعمة (القرار 2254)، في ما يظهر أنه تواطؤ دولي كامل يتبنّى الخيار الروسي بصفته مُعبّرا عن عزم جماعي للدول الكبرى، وليس متمردا عليه كما قد يحلو للتحليلات التبسيطية أن تتبرع به.

بالمقابل تبدو إيران مستبعدة عن خريطة الطريق في سوريا، ليس فقط من خلال عدم إشراكها في ما يُعدّ ويحُضّر (السعودية توضّب وفد المعارضة والأردن يتفحّص لائحة الفصائل الإرهابية)، بل من اعتبار نفوذها جزءا من حصة النظام (وليس النظام جزءا من النفوذ الإيراني) يجري التعامل معه وفق ما سينتهي إليه مصير النظام نفسه.

وتبدو إيران، سواء في الأنباء المتناقلة التي تتحدثُ عن انسحاب كثيف لتواجدها العسكري (المسمّى في طهران مستشارين)، أو في التصريحات الإيرانية المتفرقة المتناغمة متعددة المستويات المنتقدة لموسكو، أنها لا تنظر بعين الرضا للدور الروسي في سوريا.

تحظى روسيا في سوريا بما لم تحظ به دولة عظمى قبل ذلك في العقود الأخيرة. اعتمدت الولايات المتحدة في حربها في يوغسلافيا ضد نظام ميلوسفيتش، أو في العراق لتحرير الكويت، ثم للإطاحة بنظام صدام حسين لاحقا، أو في أفغانستان للانقضاض على تنظيم القاعدة ونظام طالبان، على حلفائها الغربيين الأطلسيين، ولم تستجد دعما شرقيا، صينيا روسيا، ولم تكترث لاحتمالاته.

بالمقابل، تتمتع روسيا في سعيها السوري، ليس فقط بتواطؤ ضمني غربي، بل بانضمام الجهد العسكري الغربي (لا سيما الأميركي البريطاني الفرنسي) لذلك الروسي وفق هدف ضرب تنظيم داعش، في سوريا بعد العراق، وبتسخير كافة الدول لجهدها السياسي الدبلوماسي ليتماشى مع خريطة الطريق الروسية لتوفير حلّ جديّ، ربما لأول مرة، لإقفال الملف السوري.

رسم المشهد الدولي ملامح تهميش، أو محاصرة، للدور الإيراني في المنطقة. يعرض المشهد اليمني، رغم صعوبة مخارجه، انهيار الخيارات الإيرانية في السيطرة على اليمن كما جاهر بالإعلان واحد من أصواتها (حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة محمود أحمدي نجاد)، وبالتالي فقدت طهران طموح إطلالها على باب المندب.

وتمثّل العودة العسكرية الأميركية للعراق مسّا مباشرا بما كاد يعتبر نفوذا ناجزا لإيران على مجمل العراق (راقب الإشراف الأميركي وليس الإيراني على معركة الرمادي)، يأتي ذلك ليضاف إلى تراجع للوزن الإيراني في البلد، ليس فقط لدى المكونين السنّي والكردي، بل داخل المكوّن الشيعي نفسه، الذي بدا حراك الشارع فيه، كما مزاج نخبه، ممتعضا من سياسات طهران متحرّيا سبلا جديدة للتحلل من سطوتها.

يبدو التراجع الإيراني أكثر وضوحا في الميدان السوري. لاحظَ المراقبون بتعجب الإعلان عن سقوط عدد كبير من القتلى الإيرانيين، بينهم ضباط كبار، منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا.

لم تذهب التأويلات إلى حدّ الربط الخبيث ما بين الدخول الروسي وتلك الخسائر، رغم أن المخيلات قد لا تستبعد هذا الربط (مراقبون يعتبرون مقتل سمير القنطار هي رسالة جديدة لطهران من قبل إسرائيل وروسيا مجتمعتين).

لاحظ المراقبون أيضا عمل الروس على حلّ الميليشيات السورية الرديفة للنظام والتي كان يشرف عليها ضباط إيرانيون، كما لاحظوا أن نظام دمشق، الذي لطالما كان يرسل وزراءه إلى طهران، غداة أيّ تواصل بين دمشق وموسكو، لم يعد يفعل ذلك، بما يعكس قناعة لدى حكام العاصمة السورية، أن أمر النظام ومصيره، بات بالكامل في يد روسيا، ولم تعد تنفع معها “استشارة” طهران، على ما درج قبل ذلك.

وحين نفت موسكو مؤخرا ما روّجته طهران عن زيارة قام بها الجنرال قاسم سليماني للعاصمة الروسية، كانت بذلك تبعث برسالة لإيران، بسحب أيّ شراكة، ولو إعلامية، في الشأن السوري.

لا يمكن فهم ما سبق على أنه تصادم وقطيعة بين روسيا وإيران، فكلا البلدين يحتاجان لبعضهما البعض في ورشة توطيد نفوذيهما في ساحات وملفات عديدة.

بيد أنه بات واضحا أن القوى الإيرانية وتلك التابعة لإيران في الساحة السورية باتت جزءا من الجهد الروسي ويخضع وجودها من عدمه لخطط موسكو وحدها، ولا عجب إذا ما طُلب من القوات الإيرانية (التي بدأت أصلا انسحابها) ومن قوات حزب الله وبقية الجماعات الشيعية الآتية من الخارج، الانسحاب نهائيا من الميدان السوري إذا ما تطلبت الخطط الروسية ذلك.

تتعامل موسكو مع الأمر ببرودة وحصافة وهدوء، فيما لا تخفي طهران غيظها، سواء فيما أفرجت عنه تصريحات رئيس الحرس الثوري الإيراني الميجر جنرال محمد علي جعفري، أو تلك التي سمحت بها على قناة العالم الإيرانية، حين أتاحت لأحد ضيوف القناة المعروف بدفاعه عن الخيارات الإيرانية، بتوجيه انتقادات لاذعة للتدخل العسكري الروسي في سوريا وتشكيكه في صحة استهدافه لداعش والإرهاب وإثارته لذلك التواطؤ الروسي مع إسرائيل في تغطية عمليات ضربها لمواقع “المقاومة الإسلامية” (بما في ذلك اغتيال سمير القنطار وقيادات من حزب الله في جرمانا في سوريا الأسبوع الماضي) تحت نظر المنظومة الصاروخية الروسية الشهيرة أس 400.

باستطاعة فلاديمير بوتين، وبمناسبة الحدث السوري، أن يشعر براحة في الإطلالة من الكرملين موجها رسائل للروس تدغدغ داخلهم عصبية عظمة وفخر تذكّرهم بالمجد السليب سواء ذلك أيام القياصرة أو أيام الاتحاد السوفييتي.

بالمقابل، وبمناسبة الحدث السوري، يطل هاشمي رفسنجاني لينعى، من حيث يدري أو لا يدري، عهدا وسلوكا وفلسفة حكم، بما يفتح إيران على احتمالات مختلفة تماما عن تلك الانتصارية، التي بشرت بها أصوات طهران عقب التوقيع على الاتفاق النووي الشهير.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *