يغطي فشله السياسي باتفاقية اقتصادية | د. عبدالله المدني

حينما بدأ الرئيس الامريكي باراك أوباما فترته الرئاسية الثانية، التي ستنتهي قريبا غير مأسوف عليها، وضع في سلم أولوياته إنجاز اتفاقيتين كوسيلة لتغطية فشله الذريع في ملفات الأزمات الخارجية الملتهبة.

barackobamasaysraypriceisnotarealman

الأولوية الأولى انصبت على إنجاز صفقة مع طهران حول ملف الأخيرة النووي المثير للجدل. أما الأولوية الثانية فكانت لإنجاز ما يسمى بـ «اتفاقية التبادل التجاري الحر عبر المحيط الهادي»، وهي اتفاقية استهدف مقترحها الأصلي في عام 2000 تخفيض التعرفة الجمركية، وتأسيس إطار مشترك للحماية الفكرية، وتطبيق ضوابط قانونية خاصة بالعمالة والبيئة، وإنشاء آلية لتسوية المنازعات ذات الصلة بالاستثمارات، قبل أن تنحصر الأهداف في عام 2011 في تعزيز التجارة والاستثمارات بين الدول الراغبة في الانضمام، وتشجيع الإبداع، وتحقيق التنمية المستدامة.
في الأولى قام المفاوضون الأمريكيون بجولات ماراثونية من المحادثات مع الأطراف المعنية بهدف تحقيق اختراق بأي شكل من الأشكال مع نظام يرعى الإرهاب باعتراف الإدارة الأوبامية نفسها، ولا يعترف أصلا بالمواثيق الدولية ومبادئ الأمن والسلام، ويصر إصرارا شديدا على امتلاك أسلحة الدمار الشامل لتأكيد سطوته وإرهابه في محيطه الإقليمي وخارجه. وكانت النتيجة، كما هو معروف، الخروج باتفاقية هزيلة مليئة بالثغرات التي بامكان طهران أن تستغلها متى ما شاءت للتملص مما وقعت عليه، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة من قبل جهات عديدة، ما عدا واشنطن التي اعتبرتها نصرا اسطوريا لرئيسها.
لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للاتفاقية الثانية، إلا فيما يتعلق بطبيعتها. فهذه الاتفاقية التي تم إنجازها في الخامس من أكتوبر الجاري في مدينة أتلانتا الأمريكية بين الولايات المتحدة و11 دولة من الدول المطلة على المحيط الهادي (كندا، المكسيك، تشيلي، بيرو، استراليا، نيوزيلندا، اليابان، ماليزيا، سنغافورة، بروناي، وفيتنام) ظلت تراوح مكانها منذ اقتراحها في عام 2000 ، وتطلبت جولات ماراثونية من المفاوضات العسيرة منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن دون نجاح يذكر، إلى أن قرر أوباما أن يركز جهوده عليها للخروج بأي نتيجة كيفما كانت، علّ ذلك يشفع له بحسنة قبل أن ينساه التاريخ ويضعه على الرف.
وكما في صفقة ملف إيران النووي، فإن اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي لها مثالب وفيها أوجه نقص قد تؤدي إلى تعثر تطبيقها بالشكل المأمول، على الرغم من تطبيل إدارة أوباما وحزبه الديمقراطي لها في وسائل الإعلام، والقول بأنها نموذج يمكن أن يـُستخدم لإنجاز اتفاقية مماثلة عبر المحيط الأطلسي مع دول الاتحاد الأوروبي، وأن فيها من البنود ما يخدم مصالح الأمة الأمريكية.
والشق الأخيرصحيح. فالاتفاقية تخدم بالفعل مصالح الكثير من المصدرين والمصنعين والمزارعين الامريكيين الكبار بصفة عامة، لكن على حساب نظرائهم في الدول الأخرى الموقعة على الاتفاقية الذين لن يتمتعوا حتما بنفس القدر من المزايا والمكاسب. ولعل هذا المثلب هو الذي جعل ثالثة اقتصاديات العالم، أي اليابان تقف طويلا ضد إبرام الاتفاقية بسبب تباين وجهة نظرها مع وجهة النظر الامريكية حيال الحماية الجمركية لمربي البقر وبائعي لحومها. كذلك فعلت استراليا التي اصرت طويلا أن تكون الحماية الفكرية لمصنعي الأدوية لمدة 5 سنوات في مقابل الإصرار الامريكي على جعلها 12 سنة، علما بأن هذه الحماية تدر أرباحا تقدر ببلايين الدولارات على الشركات الامريكية المصنعة للدواء، وبالتالي فكلما طالت مدة الحماية كلما زادت أرباح الأمريكيين وتكبد الآخرون مبالغ طائلة على العلاج والاستشفاء.
غير أن هناك من يجادل ايضا في مبدأ أن الاتفاقية تخدم مصالح كل الامريكيين. أحد هؤلاء هو المحلل الاقتصادي الامريكي الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2008 بول كروغمان الذي هاجم الاتفاقية بحدة ووصفها بالعمل المشوه ذي التأثيرات السلبية على العمال والمنتجين الامريكيين في قطاع صناعة السلع الالكترونية الذين سيواجهون حتما منافسة قوية في السوق من قبل السلع الالكترونية يابانية المنشأ، وفي قطاع إنتاج الألبان ومشتقاتها الذين ستتهدد مصالحهم بانفتاح السوق الامريكية أمام المنتجات الاسترالية والنيوزيلندية. ومن بين هؤلاء أيضا السيناتور الجمهوري الامريكي «أورين هاتش» الذي أكد أن استعجال الإدارة الأوبامية لإتمام المفاوضات أدى إلى التوصل إلى نتائج دون المستوى لجهة ضمان حماية كافية للمصالح الامريكية.
أحد المآخذ الأخرى على الاتفاقية، والناجمة عن تلهف أوباما على إنجازها قبل أن تنتهي ولايته، هو عدم بذل واشنطن ما يكفي من جهد لإقناع كل من الصين (صاحبة ثاني اقتصاد في العالم)، وكوريا الجنوبية (العملاق الصاعد بقوة في مجالي التصنيع والتصدير) بالانضمام إلى الاتفاقية. فغياب هذين القطبين الصناعيين والتجاريين الكبيرين المطلين على المحيط الهادي عن التوقيع على الاتفاقية يعني أنهما في حل من الالتزام ببنودها، وبالتالي يمكنهما الوقوف عقبة امام تطبيقها كما هو مأمول، خصوصا إذا ما علمنا أن الصين بادرت بعقد اتفاقيات تجارية واقتصادية ثنائية خاصة بها مع العديد من الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي.
جملة القول أن أوباما تسبب بهذه الاتفاقية، كما في اتفاقيتة مع إيران حول برنامجها النووي، في بروز انتقادات حادة حول أدائه. وهذه الانتقادات سوف تشعل بلا شك وتيرة التنافس بصورة أكبر بين المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين في السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، بل أن المرشحة الرئاسية عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، التي خدمت كوزيرة للخارجية في الفترة الرئاسية الأولى لأوباما، أعلنت صراحة معارضتها للاتفاقية مشيرة إلى مثلب جديد من مثالبها وهو عدم معالجتها بدرجة كافية المخاوف المتعلقة بالتلاعب بالعملات.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *