النموذج السياسي التركي: هل لديه مناعة ضد الارهاب؟

هناك خلط عند بعض المفكّرين بين سلفيّة النهضة والسلفيّة الوهّابية الإخوانيّة.

sfsfs44ret54tfفحفيد حسن البنا مثلاً، طارق رمضان، حاول في رسالة الدكتوراه التي قدّمها في سويسرا أن يجعل جدّه الوريث الشرعي للنهضة عوضاً عن التيّار الليبرالي الذي اتّهمه بالعمالة للغرب واصفاً إيّاه بـ”الطابور الخامس” [1]. لقد رفضت اللجنة الفاحصة رسالة رمضان، رغم ذلك إستطاع أساتذة مؤيّدون للعالم الثالث (tiers-mondiste) أن يشكلوا لجنة جديدة أعطته لقب دكتور دون التكريم والتهاني المعهودة. لكن، بشكل عام، اتّفق الباحثون على التمييز بين فكر الأفغاني وعبده الإصلاحي والفكر السلفي بعدهما. أما رشيد رضا فيمثّل همزة الوصل بين الفكرين.


الشيخ رشيد رضا الذي انتقل من سلفيّة إلى أخرى يفسّر لنا الفرق بين السلفيّتين.

ففي مقدّمة تفسير المنار يكتب: “هَذَا وَإِنَّنِي لَمَّا اسْتَقْلَلْتُ بِالْعَمَلِ بَعْدَ وَفَاتِهِ [أي محمد عبده] خَالَفْتُ مَنْهَجَهُ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى – بِالتَّوَسُّعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، سَوَاءٌ كَانَ تَفْسِيرًا لَهَا أَوْ فِي حُكْمِهَا،” [2]. الإلتزام الوثيق بـ”السنّة” يمثّل السمة الأساسيّة الاولى للفكر السلفي. اما السمة الأساسيّة الثانية فهي الإلتزام بفكر وتعاليم “إبن تيميّة”. وكان رشيد رضا يجهل هذا الفكر عامة وتقتصر معرفته به على ما كتبه نقاّده [3].

الذي أحيا فكر إبن تيميّة في العصور الحديثة هو محمد بن عبد الوهاب (1703-1791) الذي جعل تعاليمه ومذهبه الحنبلي قاعدة لحركته السلفيّة التي عُرفت بالوهّابيّة. وانتشر الفكر السلفي الوهّابي عن طريق الحجّاج الذين زاروا الحجاز، فبلغ الهند بواسطة أحمد برلفي، Ahmad Barelvi (1786-1831) وأفريقيا الغربيّة بواسطة الشيخ عثمان بن فوديو، Shaikh Uthman dan Fodio 1754–1817)) وكلاهما أسّسا دولاً إسلاميّة على النمط الوهّابي قضى السيخ (Sikh) على الأولى عام 1831 في بشاور (Peshawar) حالياً في باكستان وقتلوا مؤسّسها، بينما استمرّت الثانية، التي عرفت بخلافة سوكوتو، قرناً كاملاً في شمال نيجيريا والكاميرون منذ 1808 حتى الإحتلال البريطاني عام 1903. أما في الدولة العثمانيّة القريبة منهم فلم يستطع الوهّابيون أن يحصلوا على موطىء قدم لهم لأنّهم حاربوا العثمانيّين لكونهم، حسب رأيهم، “مشركين”. بالمقابل، اعتبر العثمانيّون الوهابيّين “عصاةً” وأرسلوا محمد علي والي مصر ليقضي عليهم.

في ثمانينات القرن التاسع عشر، مع اشتداد التوسّع الإمبريالي واحتلال إنكلترا لمصر وفرنسا لتونس، أخذت فكرة الإصلاح الديني التي أطلقها الأفغاني تنتشر أكثر فأكثر في البلاد العربيّة. في هذا الإطار جذبت آراء إبن تيمية، التي تؤكّد حق أهل العلم بالإجتهاد لتطوير الشريعة، بعض العلماء الذين وجدوا في ذلك وسيلة مرنة للإستجابة لمتطلّبات العصر. فكان الشيخ نعمان خير الدين الآلوسي (1836-1899) أول من دافع عن إبن تيميّة بعد عودته من الحج عام 1880من مكة حيث تعرّف على محمد صدّيق حسن خان أحد الأعضاء البارزين في “جماعة أهل الحديث الهنديّة” الذي أمدّه ببعض كتابات إبن تيميّة. فأصدر كتابه “جلاء العينين في محاكمة الأحمدين” [4] حاول فيه دحض حجج علماء القرون الوسطى ضد الإجتهاد الذي دعا إليه إبن تيميّة [5]. ولعب هذا الكتاب دوراً هاماً في تعريف إبن تيميّة بين العلماء العرب.

في دمشق أيضاًراجع [6] سعى بعض العلماء للحصول على كتابات إبن تيميّة فقام الشيخ طاهر الجزائري (1852-1920) بجمع ما وجد من مخطوطات في مساجد دمشق وعند الخاصة وضمّها إلى ” الظاهريّة التي أسّسها عام 1881. كما أن الشيخ جمال الدين القاسمي أحد زعماء التيّار الإصلاحي في دمشق اكتشف تعاليم إبن تيميّة بعد 1888 وإتّصل بمحمد أبي طالب الجزائري في بيروت للحصول على مخطوطاته وراسل بهذا الخصوص الشيخ محمود شكري الآلوسي (1857-1924) وريث زعامة التيار السلفي في بغداد مبدياً أيضاً رغبته بالتواصل مع تراث محمد صدّيق حسن خان. وكان الشيخان يقرآن الرسائل المتبادلة على طلّابهما للإفادة. [7] كما كان القاسمي على علاقة وثيقة برشيد رضا الذي اكتشف بدوره إبن تيميّة ونشر له “مجموعة الرسائل والوسائل” في أربع مجلّدات.

جميع المنتمين إلى التيار السلفي الإصلاحي تقريباً ارتبطوا في نشأتهم بالطريقة النقشبنديّة قبل أن يبتعدوا عنها. وربما لعب تبنّي السلطان للطرق الصوفيّة دوراّ في هذا التحوّل، لأن الإصلاح موجه في نهاية الأمر ضد سلطته.

وقد أخذت العلاقة بين السلفيّين والنقشبنديّين أوجهاً مختلفة. فبينما حصلت في بغداد مواجهة عنيفة بين الشيخ السلفي محمود شكري الآلوسي وشيخ النقشبنديّة داود إبن جرجس حول ممارسات الصوفيّة، شهدت دمشق تعايشاً سلمياً لا بل زمالة بين الطرفين.

fgvvvv4r

أما رشيد رضا فقد نفر منهم بعد تجربته معهم في طرابلس الشام وكتب لاحقاً في المنار:

” ذلك بأنني قد سلكت الطريقة النقشبندية ، وعرفت الخفي والأخفى من لطائفها وأسرارها، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر في باطنه من الدرر، وما تقذف أمواجه من الجيف، ثم انتهيت في الدين، إلى مذهب السلف الصالحين، وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين.” [8]

ثم يوضّح نقده للطريقة بقوله:

“أقول: إن التوجه والرابطة لَيْسَا مِن الدِّينِ في شيء، ولا يجوز أن يعدّا مِن العبادة المشروعة في الإسلام، ولكن لا أقول بكفر كل مَن عمل أو يعمل بهما، وإنما أخشى أن يكونَ بعض المتقلدين لهذه الطريقة تقلدًا من غير عِلْمٍ بالشرع، وعرفان بحقيقة النفس، أقرب إلى الوثنية منهم إلى التوحيد ، فيما يكون بين الشيخ والمريد، بل أجزم بأن من ذلك ما هو شرك جَلِيّ أو خَفِيّ، وإن كنت لا أجيز رمي شخص معين به.”

لقد أجمع السلفيّون على انتقاد الرابطة بحجة أن لا وسيط بين العبد وبين الله في الإسلام وبالتالي لا ضرورة لوجود الأولياء. وانتقدوا كل ممارسات الصوفيّة التي لا دعم لها في القرآن والسنّة. كما أنّهم أنكروا تفوّق العلم الباطني الصوفي، لا بل رفضوا أن يكون له علاقة بالدين الذي يقتصر علمه برأيهم على ظاهر النصوص من قرآن وسنّة. أما الخلاف الأساسي مع النقشبنديّة فقد دار حول الموقف من الإجتهاد والتقليد وتقييم العلاقة بين السنّة والشريعة. لقد دعت النقشبنديّة إلى تطبيق الشريعة بالمفهوم التقليدي أي التقيّد بتعاليم المذاهب والإلتزام بأحكام مؤسّسيها حتى لو خالفت أحياناً صريح الدين أوأعاقت السير مع متطلّبات العصر. فقالت بوجوب التقليد وكافحت الإجتهاد لأنه يهدّد الدين لصعوبة ضبطه. بالمقابل دعا السلفيّون إلى عدم الإلتزام بالمذاهب والعودة إلى السنّة النبويّة الصحيحة ومواجهة الأوضاع الجديدة بالإجتهاد، لكي يطهّروا الدين من البِدع من ناحية وينفتحوا على العالم الحديث من ناحية أخرى.

لقد كان موقف التيّار السلفي الإصلاحي العربي هذا بعيداً كل البُعد عن الموقف الصوفي الإصلاحي التركي لأنّه يرى في الإصلاح الديني شرطاً للإنخراط في العالم الحديث بينما يرى الأتراك أن الحفاظ على هويّتهم الدينيّة المرتبط بالحفاظ على الشريعة هو الشرط الضروري لتقبّلهم الحداثة. كما إن موقف السلفيّين الإصلاحيّين العرب بعيد عن موقف الأفغاني وعبده الذين رأوا أن تطهير الدين يتمّ من خلال الرجوع إلى القرآن وإعادة فهمه. فأهملوا السنّة وقدّموا التأويل، بينما التزم السلفيّون بـ”السنّة” وأكتفوا بالإجتهاد. هذا الموقف قرّبهم من جهة من الوهابيّة التي تقبل الإجتهاد لكن في حدود ضيّقة جداً. وجعل، من جهة أخرى، الإخوان المسلمين يعتبرون أنفسهم الورثة الشرعيّين للسلفيّة الإصلاحيّة على مثال ما فعل طارق رمضان.Sans_titre-20-b2795العثمانيّون

لا يوجد علاقة بين سياسة عبد الحميد الإسلامية وبين السلفيّة، لأنه استمرّ بالإصلاح كأسلافه. لكن هذه السياسة أدّت إلى عملية استقطاب في المجتمع شكّلت قطيعة مع التراث العثماني التوافقي [9].
فمن جهة، قوّى عبد الحميد التيّار الديني من علماء ومتصوّفة. بالمقابل، أنتج نظام التعليم الواسع الإطار، [10] الذي أرسى قواعده، ليس فقط مؤيّدون لسياسته بل أيضاً نخبة مثقّفة عارضت استبداده وطالبت بإعادة دستور1876. وتخرّجت هذه النخبة من المعاهد العليا العديدة حيث يتمّ التدريس باللغة الفرنسيّة فاطّلعت على الثقافة الغربية وتأثّرت بالإيديولوجية القومية الغربية وافكار أوغوست كونت “البوزيتيفيست (positivism) بما يخص التقدّم” والحضارة ورأت أنه ليس بإستطاعة التيار الديني اللاعقلاني إصلاح الدولة لا بل اعتبروا أن الدين هو سبب التخلّف. فبينما سعى العثمانيّون الشباب إلى التوفيق بين الدين والحداثة للمحافظة على الدولة العثمانية، أعلن الأتراك الشباب الحرب على الدين لتحقيق الدولة الحديثة.

التقى عام 1889 بعض خريجي معهد الطب وأسسوا مجموعة “الاتراك الشباب” التي قادت لاحقاً من خلال “جمعية الإتّحاد والترقّي” ثورة 1908. فأعادوا الدستور وحدّوا من سلطة السلطان ووقف إلى جانبهم كبار العلماء. في العام التالي إندلعت الثورة المضادة (13 نيسان 1909) راجع [11] بقيادة صغار العلماء والشيخ النقشبندي درويش وحدتي مالك جريدة “البركان” الناطقة يإسم “الجمعية المحمدية” التي تكوّنت في 5 نيسان 1909. قَمَعَ الأتراك الشباب الثورة المضادة وأعدموا الشيخ وحدتي وأصدروا قانوناً يمنع استخدام الدين في السياسة لا يزال نافذاً حتى يومنا هذا. واللافت أن بين أسماء المحرّضين على الثورة المضادة في جريدة “البركان” يظهر لأول مرة إسم “سعيد نورسي” الذي سيلعب دوراً مهماً جداً في الحياة السياسيّة والدينيّة في تركيا القرن العشرين.

النموذج السياسي التركي: هل لديه مناعة ضد الارهاب؟ (3/2)

النموذج السياسي التركي: هل لديه مناعة ضد الارهاب؟ (2/1)

حواشي

[1] Ramadan, Tariq, Aux sources du renouveau musulman. D’al-Afghânî à Hassan al-Bannâ, un siècle de réformisme islamique. Lyon 2002

[2] رضا، السيد محمد رشيد، تفسير القرآن الحكيم، جزء 1 ص. 16

[3] Hourani, Albert, Arabic Thought in the Liberal Age 1798-1939. Oxford 1970, p. 226

[4] جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، نعمان خير الدين الآلوسي. بيروت 2006

[5] Commins, David, The Wahabi Mission and Saudi Arabia. London 2006, pp. 132 ff.

[6] Commins, David, Islamic Reform. Politics and Social Change in Late Ottoman Syria. Oxford 1990

[7] الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي جمع وتحقيق محمد بن ناصر العجميز بيروت 2001

[8] الرابطة عند النقشبندية وطاعة المريد لشيخه، رشيد رضا، رجب – 1326هـ / أغسطس – 1908م _ مجلد 11، جزء 7

[9] Karpat, The Transformation of the Ottoman State 1879-1908. In: International Journal of Middle East Studies, Vol. 3, No. 3. (Jul., 1972), p. 271

[10] راجع Davison, Roderic H., Essays in Ottoman and Turkish History, 1774-1923. The Impact oft he West. Austin 1990, pp. 166 ff

[11] Ahmad, Feroz, Politics and Islam in Modern Turkey. In: Middle Eastern Studies, Vol. 27, No. 1 (Jan., 1991), pp. 3-21

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *