طهران – طالبان: زواج الضرورة / محمد قواص

إيران في علاقاتها مع طالبان ترسل للقوى الكبرى وللقوى الأساسية في المنطقة، أنها تتمدد شرقا محاولة إعادة التوازن والرد على الحرب التي تقوض نفوذها في المنطقة.

da025asd-asd-as302sa

يطلُّ تنظيم داعش من الداخل الأفغاني باتجاه الحدود الإيرانية. الأمرُ جديٌّ خطر إلى درجة أن طهران تفتح خطاً علنياً مع طالبان أفغانستان، علّها تستعين بخصوم الأمس لوقف تمدد خصوم اليوم. وفي تقاطع مصالح إيران وطالبان، تلتقي، للمفارقة، المصالح الشيعية السياسية بالسنّية السياسية، دفعاً لغزو الوافد الجديد على كل المنطقة منذ سقوط الموصل قبل عام على يد رجال أبو بكر البغدادي.

لم تعدْ العلاقة الإيرانية بتنظيم الملا عمر سراً مخابراتياً مخفياً. تحدثت الـ”ووال ستريت جورنال” بإسهاب عن الموضوع، بما يشي بإحاطة الأجهزة الأمنية والأميركية بحراك الطرفين وتسريب ذلك، جهاراً، للإعلام. حتى أن السيناتور الجمهوري جون ماكين، رئيس لجنة الخدمات المسلحة، استخدم تلك المعلومات في سياق انتقاده للإدارة الأميركية. اعتبر ماكين أن “زيادة الدعم الإيراني لحركة طالبان هو استمرار لسلوكها العدواني في اليمن وسوريا والعراق ولبنان… وهو دليل آخر على استمرار التجاهل المتعمد للإدارة للحقائق على الأرض”.


من جهته، لم يعدْ الطرف الطالباني يقاربُ بحرجٍ علاقته الملتبسة أيديولوجيا مع طهران، ذلك أن الزيارات المتعددة التي قام بها ممثل طالبان في الدوحة محمد طيب آغا للعاصمة الإيرانية، كما زيارة وفد من 11 شخصا بقيادته مؤخراً لطهران، صارت علنية تعلنُ عنها بيانات الطرفين الرسمية. مصادرُ طالبان قالت أن الحكومة الإيرانية رحبت بطلب تقدمت به لفتح ممثليه لها في طهران (لطالبان مكتب في مشهد منذ بداية 2014)، وأن الوفد اجتمع هذه المرة بوزير الخارجية محمد جواد ظريف وبقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري اللواء قاسم سليماني، بما يعكسُ اهتمام الحكم في طهران، بأجنحته المختلفة، بنجاعة تطوير العلاقة مع طالبان.

أمرٌ لافت طرأ إذن على علاقة إيران بحركة طالبان في أفغانستان. وصلت علاقات الطرفين إلى ذروه تدهورها وانزلقت الأمور إلى حافة الحرب بينهما في عام 1998 بعد مقتل 10 من دبلوماسييها في قنصليتهم بمدينة مزار الشريف شمال البلاد (حشدت إيران عقب ذلك 70 ألف جندي على حدودها مع أفغانستان). وحين أطلّت القوات الأميركية لإسقاط نظام طالبان بعد “غزوة 11 سبتمبر” تعاونت طهران، دون تردد ولا حرج، لتسهيل الأمر للقوات الغازية، ثم حافظت على علاقات ودّية مقبولة مع النظام السياسي الأفغاني الذي خرج من رحم هذا الغزو.

قواسمُ مشتركة تجمعُ المزاج في طهران بمزاج المقاتلين الأفغان المعارضين للحكم في كابل. يهتمُ الطرفان بإضعاف النفوذ الأميركي في أفغانستان (طهران أبلغت كابل مراراً رفضها للاتفاقية الأمنية المبرمة مع الولايات المتحدة)، ويهتمُ الطرفان بضرب تنظيم داعش الذي بات تعملقه يمثّل تهديداً يضرب طالبان مباشرة وفي قلب مناطق نفوذه. والاشتباكات بين طالبان وداعش في ولاية ننجهار تشهدُ على ذلك (ذبح تنظيم داعش عشرة من أفراد طالبان)، فيما استدعى الأمر في باكستان أن يجدد طالبانيوها البيعة للملا عمر، ويطردون شهيد الله شهيد الناطق الرسمي باسمهم لتقديمه البيعة لأبو بكر البغدادي.

على أن التقارب الإيراني الطالباني يأتي ضمن خلفية إقليمية مساعدة، ذلك أن نشاط داعش داخل أفغانستان بدأ يقلقُ كافة الدول المطلّة على الشأن الافغاني، الهند وباكستان وروسيا والصين… والولايات المتحدة. بهذا المعنى يعكس الود الإيراني باتجاه مقاتلي الملا عمر مزاجا إقليميا دوليا داعما، أو على الأقل لا يرى فيه استفزازا وإخلالا بالتوازنات.

لا تقتصر علاقة طهران بحركة طالبان على فتح ممثليات للأخيرة داخل الأراضي الإيرانية على ما يعلن رسميا. العلاقة الإيرانية بطالبان فرضتها حاجات طهران الأمنية منذ أن أطلّت القوات الأميركية على الحدود الشرقية لإيران، ومنذ أن اعتمدت طهران على توطيد علاقاتها اللوجستية مع الجهادية السنيّة بكافة أشكالها وهوياتها (بما في ذلك القاعدة) في سبيل تخريب أي استقرار للقوات الأميركية في المنطقة، سواء في أفغانستان شرقا، أو في العراق غربا.

ضمن ذلك الإطار، لطالما اتهمت المخابراتُ الغربية إيران ونظام دمشق، لنفس السبب، بتسهيل عبور الجهاديين ودعمهم (ونذكر اتهامات نوري المالكي آنذاك للنظام السوري)، وهو ما انسحب أيضا على الاتهامات التي كيلت لطهران وبغداد ودمشق في الوقوف، بشكل ما، وراء ظهور تنظيم داعش.

العلاقة بين طهران وتنظيم طالبان ليست جديدة، والشق التسليحي منها كان بدأ منذ عام 2007 وفق تقارير البنتاغون، لكنها باتت هذه الأيام معلنة وتتمأْسَس وفق رؤية تعيد تعويم تنظيم الملا عمر إقليميا ودوليا، منذ السماح بفتح ممثلية للتنظيم في العاصمة القطرية، وبرعاية أميركية ما على ما يبدو، ومنذ الحديث عن أن المحادثات بين التنظيم والحكم في كابل قد تتقدم باتجاه انخراط طالبان في منظومة الدولة ومؤسساتها وفق ظروف لم تنجل بعد.

على أن المعركةَ ضد داعش طارئة لا تتحمل تأملات المنظّرين وتأني الدبلوماسيين. تكشف التسريبات المخابراتية أن إيران تزّود حاليا مقاتلين في حركة طالبان بالسلاح، وتقيم معسكرات تدريب لهم في طهران ومشهد وزاهدان وفي محافظة كرمان (وفق اتهامات تسوقها كابل)، وتدفع رواتبهم. ولا تبدو الولايات المتحدة قلقة من ذلك التقارب بين إيران وحركة طالبان، ذلك أن واشنطن تعتبر الأمرَ بيتيّ متعلّق بأمن الحدود الإيرانية، ولا يمثّل ضربا للستاتيكو الإقليمي وتوازناته، ناهيك عن أن المحادثات الراهنة للتوصل لاتفاق حول البرنامج النووي يمثل سيفا مسلطاً على الحاكم الإيراني التواق للوصول إلى ذلك الإنجاز التاريخي الكبير، على نحو يمنعه من القيام بخطوات نوعية معرقلة.

لكن العلاقات الإيرانية الطالبانية تمثل اختراقا إيرانيا جديدا لميدان لطالما اعتبر حديقة خلفية لباكستان. يعيد الخبراء ظهور حركة طالبان، تاريخيا، لرغبة المخابرات الباكستانية في السيطرة على الساحة الأفغانية ومنع تسلل النفوذ الهندي الخصم إليها. وعليه قد يمثل التطور الإيراني الطالباني التفافا ما على الحكم في إسلام أباد في ملف العلاقة مع أفغانستان. ثم أن التقارب الإيراني الطالباني في جانبه المذهبي الشيعي السني قد يمثل تصورا يمس تاريخية العلاقة بين الرياض وأفغانستان عامة، وحركة طالبان خاصة.

تسعى حكومة أشرف غني الأفغانية بصعوبة للحفاظ على توازن في علاقات البلد مع السعودية وإيران. للرياض علاقات حميمية مع أفغانستان، والأفغان لا يمكنهم نسيان الموقف السعودي الداعم لسعيهم للتحرر من الاحتلال السوفياتي، كما تدرك كابل حجم الدور السعودي للضغط على طالبان لإنجاح محادثاتهما الراهنة مع طالبان. وفي هذا الإطار جاء الموقف الأفغاني داعما لـ“عاصفة الحزم” والموقف السعودي في اليمن.

بالمقابل تعلم كابل أن مليوني لاجئ يعيشون حاليا في إيران، وأن عودة إيران للعب دور إقليمي اقتصادي بعد التوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، يرشّحها لتكون متنفسا اقتصاديا لأفغانستان يخفف من ارتهان البلد الشبه حصري لباكستان لتأمين طرق التجارة والترانزيت، ما يحدو بالحكومة الأفغانية لممارسة تمرين معقّد يسعى لمقاربة طهران دون أن يؤدي الأمر إلى استفزاز الرياض.

قد يُحسب للعلاقة الجديدة بين طهران وطالبان بأنها مناكفة إيرانية للحكم في كابل الذي يقف مع الرياض في حملتها اليمنية. بالمقابل تتذكر طالبان أن نموّها وقصة ترعرعها في المدارس القرآنية في باكستان (من هنا تسميتها “طالبان”، أي طلاب المدارس) اعتمد في تمويله السعودي على إستراتيجية كانت تهدف لصدّ أي توسّع إيراني في أفغانستان وفي جنوب ووسط آسيا. وتتذكر طالبان أن السعودية كانت من ضمن الدول القلائل الثلاث التي كانت تعترف بنظامها في أفغانستان، وعليه فإن العلاقة بين طهران وطالبان قد تعتبر لعباً إيرانياً في ملعب سعودي تقليدي.

ستستفيدُ طهران من علاقتها المتطوّرة مع حركة طالبان السنّية لتنفي الجانب المذهبي الشيعي لسلوكها في المنطقة. سبق أن سوّقت إيران لذلك في تظهير علاقتها الداعمة لحركتي حماس والجهاد في فلسطين، كما في علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي. لكن إيران في علاقاتها مع طالبان ترسل للقوى الكبرى، كما للقوى الأساسية في المنطقة، لا سيما السعودية، أنها تتمدد شرقا في محاولة لإعادة التوازن والردّ على الحرب التي تقوّض نفوذها في المنطقة عامة، وفي اليمن خاصة. وربما في الرسائل الإيرانية ما يفيدُ أن ضريبة الجغرافيا تفرضُ على حكم الوليّ الفقيه، كما على سنّة الملا عمر، زواج مصلحة لا تحول دونه العلاقة التاريخية بين السعودية وطالبان، ولا الهوة العقائدية التي قد تفصل بين “روافض” و“نواصب”.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *