واشنطن والخليج: التعويذة المستحيلة!

كيف يمكن لأوباما أن يوفق بين الاطلالة الإيرانية الجديدة من على شرفة الاتفاق النووي، والقلق الخليجي من مزاج طهران الطموح فيما بلاده ‘تفقدُ ثقة الحلفاء ولا تخيف الأعداء’؟

asd-plop0-pol0-ponmjk

ميدل ايست أونلاين
بقلم: محمد قواص

تعملُ واشنطن على مقاربةٍ تجريبية تسعى إلى اجتراحِ سياسةٍ جديدة خلاقة حيال منطقة الشرق الأوسط. وفي التجريب، تتلمسُ إدارة الرئيس باراك أوباما طريقها في ورشةٍ لتدوير الزوايا وخلط التناقضات، والخروج بخلاصات ستسعى لتسويقها منتوجاً يرضي عواصم المنطقة المتنافرة. فما بين الاطلالة الإيرانية الجديدة من على شرفة الاتفاق النووي، والقلق الخليجي من مزاج طهران الطموح، تسعى الدبلوماسية الأميركية لخلط الزيت والماء من خلال تعويذة تخالف قواعد الكيمياء.


تعددت الانتقاداتُ الداخلية في الولايات المتحدة ضد سياسة أوباما في المنطقة. محصّلة الانتقادات، وأكثرها جمهوري ومنها مصدره ديمقراطي، أن الولايات المتحدة “تفقدُ ثقة الحلفاء ولم تعدْ تخيف الأعداء”. وربما أن أمر ذلك نوقش في كواليس القرار في واشنطن، بحيث ظهرت مؤشراتٌ جديدة تفيدُ بتعديلاتٍ لافتة في مسار السياسة الأوبامية في الشرق الأوسط.

يتمسكُ بارك أوباما وصحبه بعزمٍ حاسم لدفع المفاوضات، والمفاوضات فقط، إلى حدّها الأقصى للتوصل إلى اتفاق دولي نهائي يغلق ملف إيران النووي. الأمرُ حاجةٌ أميركية، بغضّ النظر عن الرفض الإسرائيلي والقلق العربي وتبرم الكونغرس الأميركي. والاتفاق، كما بات واضحاً، حاجةٌ إيرانية ملحّة بامتياز، بمعناها الاقتصادي والقيّمي، على ما كشفت عنه الفرحة الشعبية التي عبّر عنها الشارع الإيراني في ليلة الاعلان عن اتفاق الاطار الشهير.

لكن السفينة الأميركية تعدّل مسارها وهي تمخرُ عباب المياه الآسنة، بما يشبه التصحيح الذاتي الذي يُمارس في البورصات المالية بعد اختلالات كبرى. فليس من العبقرية خسارة صداقات تاريخية أكيدة، وإبدالها بتقارب احتمالي يحدده مزاج الوليّ الفقيه وأجندة حرسه الثوري. كما أنه ليس منطقياً أن لا يبدّل الاتفاق النووي ايجابياً طبيعة العلاقة المقبلة بين إيران والغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة.

تكشفُ دول الخليج عن مزاجٍ لم يعدْ يعوّلُ بشكل كامل على اعتبار أمنها جزءاً مباشر من الأمن الأميركي الاستراتيجي. بات النظام السياسي الخليجي ينتهجُ سلوكاً (لا يتكل على “مبدأ آيزنهاور”) يحددُ من خلاله وسائل الدفاع والهجوم، بالمعنيين العسكري والدبلوماسي، ليس فقط بما يتناولُ مسائل الأمن المباشر، كما تشي “عاصفة الحزم” في اليمن، بل ينسحبُ ذلك على مروحة من الملفات التي تمتدُ من ليبيا نحو العراق مرورا بسوريا، في ما بدا أنه يتباينُ وقد يتناقضُ مع ما قد ترومه واشنطن ويرسمه دبلوماسييها.

أخذت إدارة أوباما علماً بالمعطيات المستجدة في العقلية الخليجية، لا سيما في شقّها الجلي بعد تبوؤ الملك سلمان بن عبد العزيز عرش السعودية، وفي ذلك الانسجام البيتي المتين والذي عمل على انجازه الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز.

في دعوة سيّد البيت الأبيض لقمة مع زعماء مجلس التعاون الخليج ما يتسلل منه حاجة أميركية عاجلة لترميم تحالف الولايات المتحدة مع دول الخليج. تكشفُ زيارة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي لواشنطن مؤخراً عن براعة خليجية في مقاربة أمر الحليف الأميركي، من حيث وحدة الموقف والهمّ، ومن حيث انسجام الخليجيين وتكاملهم في التصدي للأخطار المشتركة، كما في مناقشة الحليف المشترك. كما تكشف الزيارة عن الجديّة التي توليها المنطقة لعلاقة واضحة مع واشنطن، بما يفسّر اعدادا دقيقا لجدول أعمال، تتولاه شخصية بهذا المستوى، تدرك بعناية حساسيات الدول الست وهمومها.

على أن ما سرّبه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، قبيل القمة، يوحي بأن بلاده تسعى لتعظيم نوعية التحالف الخليجي الأميركي، على مستويات عدة، لا سيما منها العسكري الأمني الاستراتيجي، على منوال لا يضع مجالاً للاجتهاد في استيعاب أصالة العلاقة بين الطرفين، والتي لا تحتملُ تأويلات عن بدائل محشوة بعرضية بنيوية جلية أوحت بها طهران.

في الإعلان من واشنطن على لسان سفيرها إنذاك (وزير الخارجية السعودي الحالي) عادل جبير، أرادت السعودية تقديمَ الأمر بصفته آليةً تعملُ وفق قواعد الشراكة مع الولايات المتحدة وليس تمرداً عليها وفق ما أوحت التفسيرات الموالية لإيران منذ التطور المسجّل بشأن الاتفاق النووي الميمون. وفي مسارعة الإدارة الأميركية لدعم الحملة ضد الحوثيين في اليمن، بالقول والفعل، إجهارٌ أميركي بالتمسك بخياراتٍ قديمة لم تتقادم من جهة، كما كشفٌ عن حقيقة موقف واشنطن من شبكة النفوذ التي تمتلكها طهران في المنطقة، والتي لا شك أن واشنطن تنشطُ في الضغط عليها، في ما يظهر في مواقف واشنطن حيال شؤون العراق، كما شؤون سوريا.

ترومُ واشنطن توليف أهداف ثلاث لسياستها في الشرق الأوسط. تعملُ مختبرات إدارة أوباما على تحييد الخطر النووي الإيراني، أو تأجيله، وإعادة ترشيق تحالفها مع دول الخليج وفق قواعد تحاكي التحديات الحديثة، وحشد الطاقات (ربما العربية الإيرانية بالمحصلة) لمكافحة الإرهاب. وفي تلك الورشة كثير من التجريب، لا سيما أن التناقض الإيراني مع دول الخليج يمثّله جروح نازفة في ملفات اليمن والعراق وسوريا الملتهبة.

يدرك الخليجيون محدودية العرض الأميركي لضمان أمنهم. لا تقدم واشنطن للحليف الخليجي ما تقدمه للحليف الأطلسي أو ما تقدمه لإسرائيل (أو لكوريا الجنوبية واليابان). يرشحُ البيان الختامي لقمة كامب دايفيد عن مراوحة لا ترقى إلى استحقاقات ما بعد الاتفاق النووي. لا شيء فاجأ أهل الخليج، وهم أرسلوا إشارات، في شكل الحضور ومستوى التمثيل، تعبّر عن مزاج استيعابي دون طموحات، ينشدُ تمريراً للأوبامية في ما تبقى لها من صلاحية. ففي خطاب سيّد البيت الأبيض أعراض اكتشاف للـ “حنكة” الفارسية وشكوى من “علّة” عربية داخلية ما برح يكرر الدوران حولها. فالرجل يبني فلسفته على تسويق قناعة، لا يشتريها أهل المنطقة، من أن إيران ليست الخطر، أو أنها لم تعد كذلك.

في الورشة الأميركية الراهنة ما يذكّر بالحكمة المافياوية الشهيرة التي أفرجت عنها أفلام هوليود: “دع صديقك قريباً ودع عدوك أقرب”. وما تبدّل في الأسابيع الأخيرة لمفاوضات مجموعة الستة زائداً واحد مع إيران، هو سقوط الفلسفة التي راجت في السنوات الأخيرة، لا سيما في الولايات المتحدة، حول الاستناد على إيران الشيعية بديلاً عن الخليج السنيّ، بما أوحى لطهران التبشير بأمبراطوريتها، وبسطّوتها على بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وبالإعلان عن شرق أوسط إيراني عتيد. وربما في المواقف الأميركية المتتالية حيال ميادين النفوذ الإيراني، كما في توطيد الحلف مع منطقة الخليج (على ما سعت القمة الأخيرة في كامب دايفيد)، ما يفيد بأن واشنطن تعيدُ تصحيح التوازنات بما يؤسس لستاتيكو في خريطة القوى، قد يؤسس لتسويات متعددة الأبعاد ما زالت قيّد الإعداد.

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *