ليلة ضياع الأمبراطورية!

asd962036-a6a

محمد قواص
محمد قواص
بعيداً عن الدفق العاطفي العام، مُرحباً أو ممتعضاً، فإن “عاصفة الحزم” تشكّل حدثاً مفصلياً يقلبُ رتابةً وينعطفُ بمجريات المنطقة نحو مآلات أخرى. ليس في الأمر أيُّ مبالغة. تكفي مراجعةُ الخرائط وتفحّص التحالفات وتفقّد الغبار الميداني، قبل وبعد إطلاق الهجوم الجوي على اليمن، لاستنتاج أن يوم 26 من مارس 2015 سيبقى تاريخاً يذكُره كل المشتغلين على المشهد الإستراتيجي في الشرق الأوسط.

دار العقدُ الأخير في المنطقة حول الفاعل الإيراني وحده. خلت المنطقةُ نهائياً من فاعل محوريّ آخر. بدا الفعلُ يخرجُ من طهران، فيما ينهمكُ الجوار في إنتاج ردود الفعل. نشط الحكمُ في إيران في شدِّ العالم نحو مقاربته ومداراته وفق إيقاعات البرنامج النووي الشهير، فيما عواصم المنطقة تراقبُ بشللٍ ولادةَ مارد فوق العادة بين ظهرانيها.


تحكّمت إيران وحدها في تحديد مسار التحوّلات منذ ثباتها المرسوم وفق “سايكس – بيكو”. أدلى نظامُ الوليّ الفقيه بدلوٍّ ثقيل في مساحة تجاوزت “الهلال الشيعي” الشهير. تولّت طهران حصدَ الزرع الأميركي منذ “11 سبتمبر” الشهير. إندثر نظامُ طالبان المعادي في أفغانستان شرقاً، وكذلك نظام صدام حسين في العراق غرباً، فتمّ لإيران توطيدُ اختراقها لسوريا ولبنان وصولاً إلى مياه المتوسط والحدود مع إسرائيل. وفي حرفة ملئ الفراغ بالحضور المناسب، سقطَ الشرق الأوسط وأصبح إيرانياً، وفق فتاوى علي يونسي (مستشار روحاني) الشهيرة.

سرُّ الأحجية الفراغ.

لم تحقق إيران انجازاتها نتيجةَ مواجهة أو صراع مع قوى منافسة. لا يلحظُ المراقب أي مبارزة عسكرية منذ الحرب العراقية الايرانية (1980-1988). مذاك تقدمت طهران بمفاعيل وهمِ القوة. برعَ الإيرانيون في الترويج لبروباغندا تروّج للصواريخ الباليستية ولقوة عسكرية تناطح بها القوى العالمية الكبرى. تواكَبَ كلُ مفصل دبلوماسي مع مناورات كبرى تذكّر بحضور إيران العلني في أعالي البحار وعلى أعناق المنافذ البحرية الدولية. وإذا ما ضجّت ميادين عربية في لبنان وغزة بالصدام مع العدو، فالإنجاز إيراني والخزيّ للجميع في المنطقة.

سرُّ الأحجية الفراغ. وفكُّ طلاسم تلك الأحجية الخلاص من الفراغ.

تنهي “عاصفة الحزم” وبشكلٍ نهائي سمفونية الصوت الواحد. لا تهدفُ الحملة إلى إنزال هزيمة بالطرف الإيراني في معادلات المنطقة، فذلك ليس من مرامي الحرب أو آفاقها. الحملة تجري وفق حساباتٍ دقيقة مدروسة تأخذٍ بالاعتبار كل التوازنات الإقليمية والدولية المعقّدة. يكفي تأمل تفاصيل الإعلان عن الحرب من واشنطن، كما تأمل ُهوية المتحالفين والأجندة السياسية للحرب، لاستنتاج حجم التحوّل الحاصل ونهائيته. ويكفي مراقبة مواقف ُالملتحقين بالتحالف، ربما بعدما استوعبوا مفاجأة الحدث، لتأكيد جدية هذه التحوّلات.

لم تعد إيران وحدها تصولُ وتجول دون رادع في المنطقة. تعيدٍ “عاصفة الحزم” إيران إلى موقع طبيعي يشبه ما يجب أن تحتله منطقياً وسط أعقد منطقة جيوسياسية في العالم. تستفيقُ طهران من سباتِ الفراغ الذي سوّل لها تخيّل نفسها “أمبراطورية عاصمتها بغداد”. يمتدُ التحالف الإقليمي المضاد من باكستان إلى المغرب كأكبر كتلة سنيّة رافضة للعبث الإيراني، بما لم تكن حنكة الحاكم في طهران تتخيله. وقد يصعبُ لمن إستثمر في المنطقة ممانعةً ووطنية، وزايد في شؤون العروبة والإسلام، أن يفهم حيثيات الإنقلاب العام وأن يجدَ جواباً على السؤال الأميركي القديم: “لماذا يكرهوننا؟”

يبالغُ خصوم إيران في ما ينشدونه من “عاصفة الحزم” من انهيار لغزوات سليماني وتصدّع لطموحات الولي الفقيه. إيران دولة كبرى في المنطقة في حجمها التاريخي والجغرافي والديمغرافي والاقتصادي. وهي في سعيّها لحماية أمنها، لا سيما أمن نظامها السياسي، أختارت “البلطجة” سبيلاً وحيداً لرفد أسوار قلاعها. وفي عجز طهران المستيقظة على الحدث اليمني عن مواجهة الحلف العملاق، ستذهب إيران مذاهب أخرى تأخذ بعين الإعتبار المستجد المترجل والمعطيات الحديثة الهابطة.

تبلّغ “عاصفة الحزم” إيران رسالة مفادها أنها لم تعد وحدها “الفاعل”، وأن أهل الجوار استقالوا من مواقع “المفعول به”. يفرضُ الحدث اليمني قواعدَ إقليمية جديدة تتقدم وفق كلاسيكية يمليها أي عيش إقليمي مشترك، ووفق ما تفرضه أصول الشراكة في الجغرافيا والتاريخ والسياسة والإقتصاد. تغادرُ طهران مواقع الهجوم وتنكفئ نحو خنادق الدفاع. في ذلك ستنهمكُ إيران في تحري تحالفات دولية (أبرزها مع روسيا) وتنشيط خطب شعبوية بليدة عن شياطين كبرى وصغرى ومظلومية ومؤامرة مشبوهة (خطاب السيّد حسن نصرالله الأخير مثالاً). لكن أمراً قد حدث في اليمن وسيجدُ تداعياته لاحقاً في الحسابات الكبرى داخل كل ميادين النفوذ الإيراني في كل المنطقة.

وما نسوقه لا علاقة له بتطورات المعركة الحالية ومآلاتها. وسواء راقبت طهران سير المعارك عن بعد أو أدلت بدلو ما في تفصيل ما، وسواء أسقط المتحالفون بالضربة القاضية زمن الحوثيين أو حصل تطور أنقذ مغامراتهم، فإن العالم تغير (وللمفارقة، عشية التوقيع على الاتفاق النووي الموعود)، ولم تعد إيران تصدح وحدها وأن حبلاً إلتف حول عنق الجواد الإيراني فكبح جماحه.

لم تعد “عاصفة الحزم” مزاجاً قرره المتحالفون وحدهم وأطلقوه في تلك الليلة الشهيرة. تبنت قمةُ العرب، رغم اعتراض بغداد (عاصمة يونسي الشهيرة) الحملة في اليمن، وقرر”إعلان شرم الشيخ” أنها مستمرةٌ إلى أن “تنسحبَ الميلشيات الحوثية وتسلّم أسلحتها”. قد لا يجاري المتشائمون الأداء العربي المشترك، وفي ذلك وجاهة، وقد لا يبالون بمضامين بيانات القمم، وفي ذلك ما هو مبرر، بيد أن الحدثَ اليمني فرض دينامية قد تؤسس لما بعدها، وأضحى العربُ، من حيث أرادوا أو لا، في زمن ما بعد “العاصفة”.

ستنتهي “عاصفة الحزم” إلى خلاصة ما للشأن اليمني. سيجمعُ العالم أن أمن اليمن خط أحمر عربي عامة، خليجي خاصة، سعودي خصوصاً. بمعنى آخر سيعادُ ضبط العلاقات الإقليمية وفق قواعد العلاقات بين الدول وأصولها. ستدركُ إيران دون شك غياب الفراغ الذي لعبت داخله، وتعيدُ ترتيب أوراقها وفق حقيقة أن لاعبين كثر توزعوا حول الطاولة. لكن ما لن يغيب عن البال، أن في الداخل الإيراني من سيطرق باب المسائلة ويطالبُ بكشف الحساب، فكم تخفي الأورام الظاهرة عللاً خبيثة.

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *