المهمّ أن تكون طرابلس بداية. بداية عودة الدولة إلى كلّ شبر من الأرض اللبنانية. كان لابدّ من بداية ما، من مكان ما، من أجل المباشرة بوضع حدّ لعملية تفتيت الدولة وضرب مؤسساتها وإداراتها عن طريق تعميم الفوضى في كلّ أنحاء الوطن الصغير.
الهدف من نشر الفوضى وصولا إلى الفراغ لا يختلف في شأنه عاقلان. الهدف واضح كلّ الوضوح ويصبّ في تكريس السلاح غير الشرعي، الذي كان فلسطينيا في مرحلة ما بعد توقيع اتفّاق القاهرة المشؤوم في العام 1969، وصولا الى سلاح «حزب الله» السوري ـ الإيراني في مرحلة ما بعد الخروج الفلسطيني المسلّح من لبنان صيف العام 1982. ما لبث هذا السلاح أن تحوّل إيرانيا مع الوقت، ويصبّ في الوقت ذاته في خدمة النظام السوري…متى دعت الحاجة إلى ذلك. والحاجة الآن تبدو أكثر من ملحّة لهذا السلاح الذي يلعب دوره في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه.
كان كافيا أن يكون في وزارة الداخلية رجل اسمه نهاد المشنوق يؤمن بـ «جمهور رفيق الحريري» ويعرف جيّدا المعدن الحقيقي لطرابلس والطرابلسيين، كي تنقلب المدينة على السلاح والمسلّحين والمتاريس المصطنعة وكلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد بالطائفية والمذهبية.
الطائفية والمذهبية، من بين الأمراض التي جاء بها النظام السوري إلى لبنان الذي لا يمكن تجاهل أنّه كان أرضا خصبة لزرع مثل هذا النوع من الجراثيم.
إنّه النظام السوري المتلطي بالشعارات العلمانية لحزب البعث وشعارات فارغة من نوع «الممانعة» و«المقاومة»، والذي أراد معاملة طرابلس كما عامل المدن السورية الكبيرة منذ ما قبل العام 1970.
كان هدف النظام السوري الدائم تحريض الطرابلسيين على بعضهم بعضا وإقامة جيب علوي، تماما كما فعل في هذه المدينة السورية أو تلك، خصوصا في دمشق وحمص. بدأ بالتحريض على المسيحيين في منتصف السبعينات من القرن الماضي، في وقت كانت طرابلس عاصمة الشمال فعلا. كانت طرابلس المدينة التي يأتي اليها ابن زغرتا المسيحي والقرى المحيطة بها وأبناء قرى البترون. كانت طرابلس المدينة القريبة من الجميع، من كلّ أهل الشمال. لم تكن يوما حاضنة للتطرّف قبل أن يغرقها النظام السوري بالسلاح من أجل تفتيت النسيج الاجتماعي فيها. في مرحلة معيّنة، قبل وضع اليد السورية على طرابلس، وفق خطّة مدروسة بإحكام، كان الرابط بين أهل الشمال وبين الطرابلسيين أنفسهم يتجاوز في متانته كلّ ما له علاقة بالطائفة والمذهب. ولكن ما العمل مع نظام لم يؤمن منذ ولادته في العام 1970 سوى بحلف الأقلّيات الذي اعتبره، ولا يزال يعتبره الى اليوم، ضمانة لبقائه، علما أنّ هذا النظام انتهى منذ فترة لا بأس بها خلافا لما يقوله هذا أو ذاك؟
من الباكر الجزم بأن طرابلس عادت أخيرا إلى أهلها بعد جولات عدّة من الاقتتال بين أهلها وبعد المصالحة بين الأحياء السنّية والعلويّة، بين باب التبّانة وبعل محسن تحديدا. لكنّ الثابت أنّ طرابلس أظهرت أنها مدينة مقاومة وأنّها تقاوم بالفعل وبالممارسة اليومية، وليس بالشعارات فقط، من يستخدمون شعار «المقاومة» من أجل فرض إرادتهم وتوجهاتهم السياسية على اللبنانيين. تقاوم طرابلس بمجتمعها المدني السلاح غير الشرعي الموجه إلى صدور اللبنانيين العزّل. ألم تتشكّل حكومة «القمصان السود» برئاسة نجيب ميقاتي عن طريق استخدام السلاح غير الشرعي؟
لم تكشف الخطّة الأمنية لطرابلس فقط حقيقة المدينة التي عانت من الإرهاب والتطرّف أكثر من غيرها بسبب التركيز السوري عليها والإصرار على أنها «طرابلس الشام» وأنّها امتداد للساحل السوري ولبلاد العلويين.عمل النظام السوري، مع غيره من الذين لا يريدون الخير لطرابلس، كلّ ما يستطيعونه لتصوير عاصمة الشمال بأنّها قندهار. هل من ظلم يفوق هذا الظلم يمارس في حقّ مدينة ذات كلّ هذا التاريخ العريق في ممارسة ثقافة التعايش؟
كشفت طرابلس أيضا أن ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية وإداراتها أقوى بكثير مما يعتقد، على الرغم من كلّ الحملات التي تعرّضت لها هذه المؤسسات والإدارات منذ ما يزيد على أربعة عقود. لا تزال هناك نواة صالحة في مؤسسات الدولة اللبنانية التي تبيّن أنها ليست بالهشاشة التي يعتقدها كثيرون. هذه النواة الموجودة في كلّ مؤسسة وإدارة رسمية، هي التي مكّنت الرئيس الشهيد رفيق الحريري من مباشرة مشروع الإنماء،الإعمار الذي اعاد لبنان الى خريطة الشرق الأوسط على الرغم من كلّ المحاولات التي بذلها النظام السوري ومعه ايران من أجل تكريس لبنان «ساحة» تستخدم للابتزاز ليس إلّا. كان لبنان مجرّد «ساحة» لابتزاز العرب أوّلا.
من طرابلس يمكن الانطلاق في اتجاه مناطق أخرى، كي تكون هناك عودة الى الدولة اللبنانية. تجربة طرابلس قابلة للتعميم في ظلّ وجود من هو على استعداد للمتابعة اليومية للأمور وليس الاكتفاء ببيع اللبنانيين الأوهام كما فعلت حكومة «القمصان السود» التي لم يكن لديها من هدف آخر غير تغطية الممارسات السورية في طرابلس وتكريس الانقسام السنّي-ـ العلوي في المدينة.
هناك بكلّ بساطة حكومة لبنانية جديدة تراهن على اللبنانيين. هذه الحكومة التي وصفها الرئيس سعد الحريري وصفا دقيقا، بقوله قبل تشكيلها، إنها حكومة «ربط نزاع» تراهن، في معظمها طبعا، على وجود أكثرية تؤمن بالدولة ومؤسساتها وإداراتها. لو لم يكن هذا الرهان في محلّه لما كانت بداية نجاح في طرابلس، وهو نجاح مرشّح للانتقال الى البقاع الشمالي ثمّ الى بيروت نفسها.
عندما يفشل النظام السوري، المرفوض من شعبه، في سورية نفسها. من الضروري أن يكون في لبنان من يعمل من أجل حماية البلد وتمكينه من الاستفادة من السقوط المدوي لنظام اعتبر دائما أن وجوده مرتبط بتصدير أزماته، على رأسها الأزمة الطائفية والمذهبية، الى الدول المجاورة، خصوصا الى لبنان. هذا ما تعمل من أجله النواة الصالحة في «حكومة المصلحة الوطنية» مستندة بدورها الى النواة الصالحة داخل كل إدارة لبنانية. سيتبيّن مع مرور الوقت أنّ هذا الرهان في محله على الرغم من وجود من يعمل يوميا من أجل الفراغ الرئاسي من منطلق أن الأولوية ليست لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، بمقدار ما أنّ المطلوب تغيير النظام في اتجاه المثالثة… وإنّ بقوة السلاح!
*نقلاً عن “الراي” الكويتية