تتساءل العواصم: لماذا نُجر إلى معركة قرر ترامب وخامنئي توقيتها وهما سيقرران توقيت انتهائها.الثلاثاء 2019/06/18
رسائل الإيرانيين كما تصورها الولايات المتحدة وتوزعها على العالم
يُفترض على صاحب القرار في واشنطن أنه قد توقع ردود فعل إيران المتعددة والمتصاعدة على السياسة العقابية “التاريخية” التي تفرضها إدارة الرئيس دونالد ترامب على نظام الحكم في طهران.
يُفترض أن من تبرع بفكرة الشروط الـ 12 التي تلاها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بعد أيام على قرار رئيسه الانسحاب من الاتفاق النووي، لم يكن يتوقع أن تذعن إيران، التي نعرفها وتعرفها واشنطن، وتهرول نحو طاولة المفاوضات وفق معايير ترامب وقواعد بومبيو.
هذا من المفروض. وبالتالي فإن كل ما تشهده ميادين المنطقة من رد إيراني، سواء من اليمن او تلك التي طالت سفن شحن في مياه ميناء الفجيرة الإماراتي أو تلك التي استهدفت ناقلات نفط في بحر عمان، يُفترض أنه داخل الخطة الاميركية الكبرى التي تتقاطع داخلها مؤسسة الرئاسة كما مؤسسات واشنطن الدبلوماسية والسياسية والأمنية.
على أننا ما زلنا نشعر أن الولايات المتحدة ترتجل مواقفها حيال إيران وتأخذ مقارباتها طابعا تجريبيا يومياً في الرد على رد الفعل الإيراني في الأيام الأخيرة.
لم نعرف بالضبط من فجر ناقلات النفط في بحر عمان. لكن واشنطن سارعت بإخبارنا بعد ساعات أن معطياتها العسكرية والمخابراتية تؤكد أن إيران هي وراء الأمر. كنا نشتبه بطهران. هي التي ما انفك جنرالاتها يعدون بإغلاق مضيق هرمز وسد الملاحة الدولية هناك. وهي التي قال وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، المفترض أنه ينتمي إلى تيار الرئيس حسن روحاني “المعتدل”، والذي يمثل الواجهة الدبلوماسية الأولى التي تخاطب المجتمع الدولي، أنه إذا ما مُنعت إيران من بيع نفطها فلا عجب أن تمنع إيران مرور نفط الآخرين.
كانت تلك شبهة. لكن واشنطن أتت تبدد تلك الشبهة وتجعلها يقيناً. إيران هي المذنبة، أيدتها بريطانيا في هذا الاتهام، فيما لم يعارض الأوروبيون وجهة نظر واشنطن وإن بدوا أنهم متمهلون في الاستدارة صوب الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.
حين قررت الإدارة الأميركية إرسال حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” والسفن المرفقة إلى مياه المنطقة، وحين قررت بعد ذلك إرسال قاذفاتها الاستراتيجية من طراز بي 52 إلى قاعدة العديد في قطر، خرجت المنابر العسكرية والأمنية الأميركية مبررة أمر ذلك بأنه للرد على خطط إيران لزعزعة الأمن واستهداف مصالح أميركية. كان في مضمون الفعل وتفسيره أن للزحف العسكرية مهام ردع استباقي وإرسال رسالة لإيران مفادها أن الخيارات العسكرية باتت على الطاولة تضاف إلى سلة تنتفخ من العقوبات الموجعة.
لم ترتدع إيران. ضربت وفق تأكيدات واشنطن ليس فقط سفنا تجارية، بل أن بيانا عسكرياً أميركية اعترف بأن صاروخاً إيرانيا أسقط طائرة أميركية مسيّرة بالقرب من موقع ناقلات النفط التي استهدفتها الاعتداءات، فيما صاروخ أطلقته ميليشيا الحوثي أخطأ طائرة أميركية أخرى في سماء اليمن.
نعم هو ارتجال أميركي في مقاربة أكبر أزمة تشهدها المنطقة منذ سنوات، وهي ربما الأكبر في تاريخ الجمهورية الإسلامية منذ انتهاء الحرب الايرانية العراقية. تفرض واشنطن عقوبات على إيران تبدو موجعة تمسّ عصب النظام السياسي في طهران إلى درجة أن قادة إيران بدوا مجمعين على قلب الطاولة وتبديل قواعد اللعبة وجرّ واشنطن والعالم من حولها إلى مواقع للنزال تختار مكانها وزمانها ومستوى إيقاعها.
تضرب إيران وتريد للعالم أن يعرف أنها تضرب. تدعي براءتها من هذا الإثم لكنها تبتسم راضية عن تراكم الشكوك حول مسؤوليتها. وفي رد الفعل الظاهر في الولايات المتحدة كما في بقية دول العالم، فإن طهران تحصد إشارات مفادها أن هذا العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وخصوصا رئيسها في البيت الأبيض، لا يريد الحرب ولا يريد الصدام مع إيران. تقول واشنطن أن إيران تضرب سفن الآخرين وتسقط طائراتنا، فيما دونالد ترامب مستمر في الدعوة للتفاوض والحوار، فلماذا مطلوب أن يتخذ حلفاء واشنطن موقفا حاسما ضد إيران فيما ترامب وإدارته لا يريدون ذلك.
أن يهدد أمن التجارة الدولي من خلال ما يتهدد مضيق هرمز وبحر عمان، فذلك أمر دولي تريد الولايات المتحدة أن يكون الرد عليه دولياً متعدد الجنسيات. تعد واشنطن بالتشاور مع الحلفاء لتشكيل تحالف دولي يفرض الأمن ويحمي التجارة الدولية في تلك المنطقة. لدى عواصم العالم انطباع أن الجلبة أميركية إيرانية هناك وأن نزاعاً ثنائيا بين واشنطن وطهران يظهر أورامه في مياه المضيق الدولي، وأن اتفاقا بين العاصمتين من وراء ظهر الجميع يزيل ألغام المضيق. وعلى هذا تتساءل العواصم لماذا نُجر إلى معركة قرر ترامب وخامنئي توقيتها وهما سيقرران توقيت انتهائها.
بين الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين حكايات توتر منذ أن تبوء دونالد ترامب سدة الرئاسة في بلاده. توتر آخر يشوب علاقة الرجل مع باقي أعضاء الحلف الأطلسي. كما أن عقوبات واشنطن التجارية ضد أوروبا على منوال تلك التي تفرض على الصين غير الحليفة، تطرح أسئلة حول طبيعة التحالف الغربي ومآلاته. أسئلة أخرى تطرح حول مستقبل التحالف بين أوروبا والولايات المتحدة في وقت يجاهر فيه سيد البيت الأبيض بالعداء للاتحاد الأوروبي وتفخيخ دوله عبر دعم التيارات الشعبوية في بلدانه وتحريض بريطانيا على الخروج منه أيا كان ثمن ذلك.
لا يبدو أنه من السهل على ترامب أن يجد حلفاء له في مغامراته ضد إيران.
لن يقف الأوروبيون مع إيران، وهم حتى حين وعدوا بصيانة العلاقة التجارية مع طهران “واخترعوا” آلية دفع صونا للبرنامج النووي لم يفلحوا في ذلك. ومع ذلك فإن الأوروبيين لن يهرولوا للتحرك تحت مظلة ترامب لمقاربة الملف الإيراني، فيما الرجل ومنذ انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ أرخى مناخاً ملتبساً غير ودي بين الحلفاء.
إيران في ورطة حقيقية، وربما تاريخية. ولأنها في تلك الورطة تجيز لنفسها الوقوف على حافة الهاوية علها تفلح هذه المرة فيما أفلحت به لمواجهة خصومها في العالم خلال العقود الماضية.
في بال طهران أنها كانت وراء تفجيرات طالت مدنا أوروبية، واحتجزت دبلوماسيين اميركيين في طهران وخطفت مواطنين غربيين في بيروت وفجرت ثكنة المارينز هناك… واللائحة تطول، واستطاعت أن تقنع العالم أنها “شر لا بد منه”. انتقلت واشنطن من سياسة “الاحتواء” قبل أوباما الى سياسة “الاتفاق” في عهد أوباما، فلماذا لا تعّول على تذكير من أتى بعد أوباما أن التفاهم مع إيران أقل كلفة من الصدام معها.
دونالد ترامب ليس رجل سياسة ولا يهمه موقعه في التاريخ. هو رجل أعمال نجح في الفوز بعقد البيت الأبيض وهو عاكف على توفير الشروط لتجديد عقده الرئاسي لولاية ثانية. يغلب على الرجل طابع الأعمال التي يريدها رابحة. يتحدث مع الصين وأوروبا وروسيا كما مع كندا والمكسيك ودول الخليج بمنطق البزنس ولغة الصفقات.
تعول إيران على هذه الطباع في شخصية الرجل وهو الذي ما برح رغم تصعيدها الأمني والعسكري الأخير ينادي بالتفاوض والحوار. وطهران في قراءتها لردود الفعل الصادرة من واشنطن كما بقية عواصم العالم تستنتج أن هذا العالم، وعلى عكس ما يُعتقد، لم يتغير وأنه وحتى “إشعار مضاد” لن يغير مع إيران ما اعتاد على سلوكه منذ أربعين عاماً.
هل من إشعار مضاد؟