كان قادة المسيحيين اللبنانيين في المنافي أو السجون حين بات أمام المسيحيين خياران، إما الخنوع وإما الصمت. لم يصمت البطريرك صفير.الثلاثاء 2019/05/14
دائما بين خيارين
عام 2004 توجهتُ إلى بكركي، إلى الصرح البطريركي، لمقابلة البطريرك نصرالله صفير. كانت جهات خلفية قد دبرت ذلك الموعد. كنت أطمح في ذلك الزمن الساخن سياسيا في لبنان إلى إجراء مقابلة تلفزيونية مع رأس الكنيسة المارونية في لبنان.
جلست وحيداً داخل تلك الصالة الكبيرة التي يستقبل البطريرك داخلها ضيوفه والتي نعرفها جميعا كونها حاضرة في نشرات الأخبار والتقارير التلفزيونية من بكركي. دخل الرجل بقامته المتواضعة وهامته العملاقة. دعاني للجلوس في المقعد المحاذي لمقعده المعهود. سألني كثيراً وكأنه كان يريد أن يعرف من وافد جديد ما لا ينقله الوافدون.
قال لي معتذراً لا أريد أن أتكلم، فكلامي لا يعجبهم. وحين حاولت التذاكي بأن أعرض عليه مقابلة عن الدين والثقافة بما يعفيه من مواقف في سياسة، أجابني بأنهم سيقوِّلونني ما لا أقول.
قال البطريرك الراحل كلاماً كثيراً في زمن كان فيه الكلام تهمة. وهو إن ارتأى قلة الكلام في تلك المرحلة، ذلك أنه كان يعرف ضراوة ما لم يعرفه الآخرون إلا حين اغتيل رفيق الحريري عام 2005. وربما أن اللبنانيين اكتشفوا ماذا فعل البطريرك بالمسيحيين في ما عبروا عنه عفويا إثر ذلك الاغتيال الأسود.
أذكر أني زرت لبنان بعد شهرين من ذلك الحدث الجلل. كانت زيارة ضريح الحريري قد باتت طقساً يمارسه الناس وكأنه حج واجب. كانت والدتي رحمها الله تنتظرني للقيام بهذا “الحج”. وقفنا أمام الضريح. كانت والدتي على يساري تحمل مصحفا صغيراً تقرأ فيه، ولمحت شخصا وقف بعد هنيهة على يميني، فإذا بها راهبة مسيحية تحمل انجيلاً تقرأ فيه.
كاد المشهد أن يكون سينمائيا مُعداً. بيد أن المشهد كان رتيباً في عيون اللبنانيين. وما وقوف الراهبة المسيحية للصلاة أمام ضريح زعيم مسلم إلا نتاج ما فعله هذا البطريرك في بكركي بمسيحييه.
كان المسيحيون في لبنان يمثلون وجهاً آخر مختلفا عما كان سائداً في كل المنطقة بعد مرحلة الاستقلالات. حاولوا الخروج بمشروع حضاري أرادوه مثالياً لتبرير مشروعية ذلك الكيان الذي ارتأوه وطناً يتشاركون به المصير مع المسلمين. لم يكن ذلك المصير هو الذي يريده المسلمون، وهم المنشدّون نحو ما وراء الحدود بما يحمله الخارج من رياح تنفخ أيديولوجيات ومشاريع وخطط وأفكار تتجاوز ضيق لبنان ومنطقه.
لم تتحرَ البطريركية المارونية في تماسها مع فرنسا وطناً كبيراً يشمل دمشق شرقاً في بعض الخرائط التي عرضتها عليها باريس عام 1919 في عهد رئيس الوزراء آنذاك جورج كليمنصو. ولم توافق البطريركية على قيام وطن يخص المسيحيين وحدهم، وعملت على الصيغة التي يعيشها لبنان منذ نشوئه عام 1920 واستقلاله عام 1943.
ارتأت البطريركية وطناً قال عنه البابا يوحنا بولس الثاني أنه رسالة. غير أنه كان للمسيحيين وجهة نظر أخرى لم تتوافق دائماً مع مزاج البطريركية المارونية. بعضهم غادر الصفوف التقليدية المحافظة وراح يلتحق بكافة التقليعات التي عرفتها المنطقة. منهم من قاد تيارات شيوعية ومنهم من التحق بالناصرية والقومية العربية بنسخاتها البعثية، وبعضهم من التحق بليبرالية انسانوية لا تجد في الحيز اللبناني الضيق فضاء لحراكهم.
مسيحيون آخرون لم يصدقوا حتى اليوم أنهم يعيشون مع مسلمين في بلد واحد. حتى أن وجود بلدهم جغرافياً داخل منطقة يعيش فيها أكثر من مليار ونصف مسلم لا يعدو كونه، بالنسبة لهم، حادثاً مؤقتاً، يتعايشون مع عرضيته حتى “العودة” إلى ما هو “طبيعي” يشبه عيش المسيحيين وفق التنميط الذي يتخيلونه.
قاتل المسيحيون بالدم والسلاح دفاعاً عن الفكرة التي يريدونها للبنان. وقاتل مسيحيون آخرون بالدم والسلاح دفاعاً عن فكرة أخرى يريدونها لهذا البلد. باتت الفكرة نفسها وفق الرزنامة المسيحية مشوهة مربكة تتحرى نقطة توازن فقدتها منذ اندلاع الحرب الأهلية. غرق اليمين المسيحي داخل فكرة تم الترويج لها لعزل لبنان عن البيئة المحيطة، وصولاً إلى فكرة طموحة تود “عزل لبناننا عن لبنانهم”.
هزمت الحرب منطقاً مسيحياً تصادم مع أمر القوة الواقع. من المسيحيين من قبل الهزيمة واصطف داخل اتفاق الطائف لعام 1989، ومنهم من عاندوا تلك الهزيمة لكنهم عاشوا وتصرفوا بصفتهم منهزمين. بيد أن المسيحيين الذين التحقوا بما تيسر من رياح تعصف في الخارج وجدوا انفسهم وقوداً لأنظمة متواطئين مع سلطانها مصفقين لاستبدادها.
كان البطريرك الماروني الراحل الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير من طينة يأتي بها التاريخ.
ترجل إلى الصرح البطريركي في نهايات الحرب الأهلية قبل سنوات من إبرام اتفاق الطائف. بات على البطريرك الجديد رعاية الموارنة ومواكبة انتقالهم من طور صعودهم في الجمهورية الأولى إلى طور يتلمسون عتمته في الجمهورية الثانية.
جرّد حكم وصاية دمشق في بيروت المسيحيين من قادتهم. نفيّ آل الجميل وآل شمعون وقبلهم ريمون أده، ومنحت باريس الجنرال ميشال عون لجوءا سياسيا وزُجّ بقائد القوات اللبنانية سمير جعجع في السجن. بات أمام المسيحيين خياران، إما الخنوع وإما الصمت.
لم يصمت البطريرك صفير. كان في صوته ما يريد اللبنانيون، مسيحيون ومسلمون قوله. تحوّلت بكركي في عهده إلى “لندن ديغول” أيام الاحتلال النازي، وباتت زيارة البطريرك تهمة يحمل تفسيرها تأويلات واجتهادات خبيثة في دمشق كما في بيروت.
ارتبط اسم البطريرك صفير بمفاصل أساسية في تاريخ لبنان الحديث، خصوصا أن الرجل عاصر أزمات البلد المرتبطة بالوجود الفلسطيني وتلك المتعلقة بالحرب الأهلية (1975-1990) وما رافق ذلك وتلاه من حضور عسكري وسياسي للنظام السوري داخل البلد، انتهاء بالموقف من حزب الله وسلاحه.
ولد البطريرك الراحل في 15 مايو في بلدة ريفون بقضاء كسروان عام 1920، وأصبح بطريرك الكنيسة في 19 أبريل عام 1986.
تقدم البطريرك على نحو مفاجئ في مطلع سنة 2011 باستقالته، طالباً إعفاءه من المهام البطريركيّة والانصراف إلى التأمّل والصلاة. ورغم أن صفير قال إن تقدمه في السن يقف خلف قراره ترك منصبه والاستقالة من مسؤولياته على رأس الكنيسة، إلا أن معلومات لم يُصادَق عليها رسمياً تحدثت عن ضغوط فاتيكانية أزاحت البطريرك بغية تخليص المنصب من أثقال سياسية صار صرح بكركي يمثلها في البلد.
وكان الفاتيكان منح صفير دعماً سياسيا ودوليا حين قام البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بزيارة عام 1997 إلى لبنان. وقد تخللت الزيارة مواقف داعمة للبطريرك والمسيحيين في لبنان في وقت كان فيه زعماؤهم يعانون الاضطهاد والسجن والنفي.
ولطالما اعتبر البطريرك سيادياً لاسيما في الموقف من التدخل السوري في لبنان الذي أخذ طابعا عسكريا مباشراً منذ عام 1976.
ولم يقبل البطريرك صفير القيام بأي زيارة رعوية لسوريا على الرغم من دعوات وجهتها دمشق بهذا الخصوص. ولم يرد البطريرك من خلال زياراته منح النظام السوري شرعية مسيحية لوجود القوات السورية في لبنان.
ويعتبر البطريرك صفير زعيماً سياسياً رغم موقعه الكنسي على رأس الكنيسة المارونية في لبنان. وقد رعى البطريرك بشكل ضمني التحركات السياسية المسيحية الكبرى ضد الوجود السوري في لبنان، وكان للبطريرك ممثل لدى “لقاء قرنة شهوان” التي جمعت ابتداء من عام 2000 شخصيات وتيارات سياسية مسيحية تدعو إلى استقلال لبنان وسيادته في وقت كانت شخصيات وتيارات مسيحية أخرى تعمل تحت كنف الوصاية السورية في البلد.
ولم يتوقف صفير عن معارضة الدور السوري في لبنان وكانت علاقاته متوترة مع القادة الموارنة المتعاملين مع وصاية دمشق كما كان من المعترضين على رغبة سوريا بالتمديد لرئيس الجمهورية السابق إميل لحود عام 2004، معتبرا التمديد خطوة غير دستورية.
ونقل حينها عن رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري الذي كان معترضا على التمديد، قوله إن “كلام البطريرك هو بطريرك الكلام”.
وشكلت مصالحة الجبل في اغسطس 2001 مشروعاً لإنهاء الخصومة بين الدروز والموارنة والتخلص من ترسبات الحرب الأهلية وإعادة المهجرين المسيحيين إلى قراهم في منطقة الجبل.
وقد أرسى البطريرك صفير هذه المصالحة مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في المختارة. وأرست هذه المصالحة أسساً أولى لمعارضة سياسية ضد واقع الأمر السوري تتجاوز الحيّز المسيحي وحده. وقد أغضبت تلك المصالحة النظام السياسي الأمني اللبناني المسيطر عليه من قبل دمشق. واعتبر الحدث معانداً للقواعد التي فرضتها دمشق في التعامل مع لبنان.
ولم يدعم البطريرك صفير سلوك قائد الجيش اللبناني العماد ميشال عون بعد تعيينه رئيسا للحكومة اللبنانية من قبل رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل قبل مغادرته ولايته عام 1988، كما عارض أساسا قرار الجميل في هذا الصدد.
وعلى الرغم من المعركة التي خاضها عون عسكرياً وسياسيا ضد الوجود السوري في لبنان، إلا أن تحرك عون لم يحظ برعاية بكركي. وقد قام عدد من أنصار عون باقتحام البطريركية والاعتداء جسديا على البطريرك صفير وتوجيه الاهانات لشخصه.
ورغم موقعه كقائد روحي للمسيحيين في لبنان، إلا أن البطريرك صفير رفض التعصب المسيحي ومارس دوره التاريخي بصفته بطريرك لبنان، بطريرك كل اللبنانيين. وحرص صفير على رفض أي سلوك مسيحي لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح وهواجس الشريك المسلم.
وكان البطريرك الماروني قد أيد اتفاق الطائف عام 1989 على الرغم من اعتراض الجنرال ميشال عون وقبل أن يؤيده قائد الميليشيات المسيحية آنذاك، سمير جعجع. وأيد صفير الاتفاق على الرغم من أنه أدخل تعديلات دستورية عززت صلاحيات مجلس الوزراء مجتمعا على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني.
وقد شكلت العلاقات الطيبة بين رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري والبطريرك صفير منطلقاً لشراكة لبنانية مسيحية إسلامية من أجل لبنان على نحو أثار القلق والريبة لدى دمشق.
وعارض صفير سلاح حزب الله واعتبر أن الأمر يعتبر “حالة شاذة”. ويعتبر المراقبون أن مشهد الزحف الجماهيري الذي شهدته بيروت في 14 مارس 2005 بعد شهر على اغتيال رفيق الحريري، كان من الضخامة في أعداده ومن الفرادة في جمعه بين المسلمين والمسيحيين، بحيث لاقى خطاب البطريرك صفير الوحدوي السيادي اللبناني طوال الفترة التي تولى فيها قيادة الكنيسة المارونية في لبنان.
رحيل البطريرك صفير ليس خسارة للمسيحيين فقط. هي خسارة للبنان بأجمعه، ذلك أن روحية البلد الذي فاوضت البطريركية في بدايات القرن الماضي على نشوئه تحتاج إلى بطريركية حكيمة تحمي لبنان من عواصف خبيثة تهب من الخارج وتحمي لبنان أيضا من رياح سوداء قد ينفخها اللبنانيون أنفسهم.