ثمة روح جديدة للتعايش والتسامح انطلقت من الإمارات وتجد صداها في المنطقة وخصوصا السعودية.
أكبر من احتفالية روحية دينية
قد تصحح زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات بعضا من التوازن في المشهد الحالي الذي يُدار من خلاله العالم عامة والمنطقة خاصة. وقد يتوسل الحدث تصويب الأبجديات التي ترسم العلاقات الدولية، بحيث لا تقتصر على أروقة الدبلوماسية وعتمة الغرف الكبرى، بل يعاد التذكير أن أساس العالم هو الشعوب في حضاراتها ودياناتها وثقافتها وتقاليدها وتنوعها واختلافها، وأن تلك الشعوب، في ما تستبطنه من ذاكرة وما تتوق إليه من طموحات، هي أصل الحكاية الإنسانية وسرّ استمرارها.
وللزيارة معان أخرى في ذلك الزمان الأسود الذي يخترق بلداننا منذ سنوات والذي نخاله لا ينتهي. يحمل البابا في زيارته جرعاً عالية من الأمل بهذا الشرق الأوسط الذي يروج داخله الظلم والعنف والدمار والإرهاب. وقد يقول قائل إن رجل الفاتيكان القوي سيمر في ديارنا في مشهدية عابرة ينشغل بها الإعلام دون أن يكون للأمر أثر في كسر هذا الجموح نحو التطرف والنزوع إلى العدم. لكن الأمر غير ذلك تماماً، ويكفي تأمل مسجد الشيخ زايد الكبير الذي يحتضن “لقاء الأخوة الإنسانية” لاستنتاج البعد العميق للحدث الكبير.
للبابا فرنسيس حكمة في القيام بزيارة للإمارات، هي الأولى لبابا الكاثوليك إلى منطقة الخليج العربي في تاريخ البابوية العتيق. وللإمارات حكمة في أن تقيم على أرضها قداساً، ضخما في مساحته، فريداً في تعدد أعراقه، عميقاً في صداه داخل العالمين العربي والإسلامي. وفيما تروج في عالم هذه الأيام شعاراتُ عيشٍ وقواعد فكرٍ تنفخ في أشرعة العنصرية والشعبوية والدفع باتجاه رفع الحدود وتشييد الجدران بين الشعوب، يبدو حدث الإمارات، في بعده الروحي المسيحي الإسلامي، مفترقا يعوّل عليه ليكون فاصلة في تغيير مجاري التيارات السوداء. ففي الحدث ما يحفز الإنسانية جمعاء للعودة إلى الإيمان بكوكب الأرض قرية واحدة لا بديل لها للجنس البشري من شرقها إلى غربها.
من التبسيط اعتبار حدث الإمارات احتفالية روحية دينية يجتمع داخلها جمع من رجال ونساء ينتمون إلى ديانات الأرض قاطبة. الحدث سياسي بامتياز، يستفز أهل الحكم في عواصم القرار، ويدعوهم إلى إعادة قراءة هذا العالم وفق معطى الموعد في أبوظبي.
أن يلتقي البابا للمرة الرابعة بشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وأن يلتقي هذه المرة بأعضاء مجلس حكماء المسلمين، فذلك أن المسيحيين والمسلمين تجاوزوا بحزم مرحلة التوتر التي شوشت العلاقة بين الفاتيكان والإسلام في عهد البابا السابق بنديكت السادس عشر. بدا تقييم البابا السابق متقادماً وبدا تقييم البابا الحالي جب ما سبق من تقييم سلبي متسرّع ومسطح لتاريخ الإسلام ودوره داخل الحضارة الإنسانية.
يعرّف البابا فرنسيس أن “العنف” الذي لاحظه سلفه في الإسلام احتل مرحلة ضبابية في تاريخ المسيحية. عرّفت العصور الوسطى ألواناً من التعصّب والتطرّف أقيمت محاكم التفتيش خدمة لها، حتى أن الكنيسة في التاريخ الحديث اتهمت بالتواطؤ مع النازية وارتداداتها في العالم. فإذا ما تخلّصت الكنيسة من شوائبها فإن زجاج الكنيسة في هذا المضمار زجاجي لا يتيح رمي الآخرين بحجر.
على أن في لقاء الفاتيكان والأزهر ما يمكن أن ينبه دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي، والأزهر وأمامه خصوصاً، أنه كان على الكنيسة أن تطهر نصوصها مما لم يعد يتّسق مع قيم العصر وقواعده، وأن جدلاً كنسياً داخليا موجعاً انتهى إلى عصرنة المسيحية. تخلّص الفاتيكان (وما زال) من شوائب تراثية وسلوكيات خارجة عن سياق العصر، وبات رافعا لقيم الإنسانية الحديثة في ما أنتجته من نظم حكم، واحترام لمنظومة حقوق الإنسان، وسُبل تداول على السلطة، وموقف حازم ضد النازية والفاشية والعنصرية.
التقى إمام الأزهر بالبابا فرنسيس ثلاث مرات في السابق. تقاطع الرجلان داخل سعي مشترك لرعاية السلم والاستقرار ومكافحة العنف والتطرّف الإرهاب. بدا أن أمر محاربة هذه الآفات الخبيثة هو مسؤولية مشتركة ما بين الكنيسة المسيحية وإسلام العصر الحالي. وبدا أيضا أن للإسلام في العالم عنوان رسمي ومرجعية سامية يمثلها الأزهر في مصر. في ذلك علامة لافتة بإن إسلام هذه الأيام لا تمثله أية مرجعية أخرى في أي بلد إسلامي آخر. وداخل تلك الورشة المشتركة ما يفتح فضاء آخراً لمحاربة الإرهاب في العالم يتجاوز آليات الأمن والعسكر. فإذا ما كان أصل الإرهاب فكر ظلامي ماضوي، فإن معالجة الآفة تستوجب تفريغ خزاناتها الفقهية واللاهوتية والايديولوجية. وإذا ما دفع العالم أجمع، بمسلميه ومسيحيه، وربما مسلميه قبل مسيحيه، ضريبة الإرهاب، فحريّ أن تتولى الكنيسة في الفاتيكان والأزهر في مصر الفلاحة المشتركة داخل حقول روحية لطالما أهملتها قواعد القرن الواحد والعشرين.
يتوجه البابا فرنسيس في الإمارات إلى المهاجرين. يحج البابا إلى هذا البلد حيث تتعايش حوالي 200 جنسية تحمل لغاتها ولهجاتها وموسيقاها وروائحها وأديانها وتقاليدها. هم مهاجرون منهم مليون مسيحي يعيشون تجربة الهجرة وفق النمط الذي ارتآه أهل الإمارات في تجربة نادرة، تكاد تكون فريدة، في تسامحها واعتدالها واحتضانها للآخر.
نمت الكنائس في الإمارات كما تنمو المساجد، واقيمت المعابد على تنوّع ملامحها، على النحو الذي يتيح للوافدين ممارسة عباداتهم وشعائرهم بحرية كاملة. بات أمر ذلك من طبيعة البلد. وبات ذلك النموذج علامة تكاد تكون مضادة للتيارات التي تزدهر في العالم ضد الهجرة وعبق المهاجرين.
يردُ البابا فرنسيس في الامارات على حائط الرئيس الأميركي دونالد ترامب على حدود بلاده مع المكسيك. يبشّر بابا الفاتيكان في أبوظبي بقيم يهددها صعود اليمين المتطرف ورواج الشعبوية في العالم. فإذا ما كان التعدد الاثني والديني والاجتماعي من الطبائع العادية لدولة الإمارات منذ قيامها، فإن البابا يبشر بالأمر من الإمارات بصفته حدثا إنسانياً وجب تعميمه وإخراج حصريته من الأبجديات الإماراتية المحلية.
يسافر البابا من روما باتجاه الإمارات وفي ذهنه أنه ينتقل إلى “أرض الإسلام”. يحلّ البابا ضيفا في أرض مسلمة تستضيف مسيحيين بتسامح لا يشبه تلك الواجهات التي تصدرها نسخ داعش والقاعدة من الإسلام. يلحظ البابا حجم التحولات الحاصلة في كل المنطقة باتجاه التخلّص من الأصولية والتطرّف والعودة إلى الوسطية والاعتدال. يزور البابا الإمارات وهو يعرّف كم أن نموذج تلك الوسطية بات صلباً وواعداً بعد التحولات التاريخية الكبرى التي عرفتها السعودية في السنوات الأخيرة. دخلت المملكة حداثة اجتماعية تطال ثقافة الفرد والعائلة ومؤسسات الدولة. تنتقل السعودية من عصر “الصحوة” في التشدد إلى عصر آخر لم يكن السعوديون يحلمون به قبل سنوات.
على قاعدة هذا التحوّل ينتقل البابا إلى الجزيرة العربية. يدق البابا في الإمارات أبواب المنطقة على بعد قريب من أرض النبوة. لم يعد أحد يستغرب أن ينتقل ممثل الكنيسة الكاثوليكية الأعلى لزيارة السعودية يوما ما، قد لا يكون بعيداً. البابا نفسه بات يعرف ذلك، وبات يستنتج أن المنطقة أضحت طاردة للإرهاب، وبات يدرك أن للإرهاب حكايات تقررها أجندات الدول الملتبسة وأجهزتها الخبيثة، وليست من صناعة الكتب السماوية وعباد الله الصالحين.