بريكست كما السترات الصفر تبينان عمق الأزمة السياسية في بريطانيا وفرنسا على حد سواء.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي في قمة ثادة الاتحاد في بروكسيل ماكرون وماي صورة باهتة معاصرة عن قادة مؤسسين بقامات فرانسوا ميتران ومارغريت تاتشر
لم يلحظ التاريخ ودّاً بيولوجيا بين فرنسا وبريطانيا. تخاصم البلدان في السياسة والثقافة والدين. بقي بحر المانش حاجزا طبيعيا بين كيان فرنسا اللاتيني وكيان بريطانيا الانغلوسكسوني حتى حفر فرنسوا ميتران الفرنسي ومارغريت تاتشر البريطانية قناة وصلت الجزيرة البريطانية الكبرى لأول مرة باليابسة الأوروبية. يكفي للزائر أن ينتقل بـ 45 دقيقة جوا بين عاصمتي البلدين ليكتشف عالمين مختلفين لم يجمعهما يوماً إلا تلك الحكاية الأوروبية الحديثة.
قد يبالغ البعض في القول إن في رواية نزوع البريطانيين إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي شيء من هذا البغض الجواني الذي يكّنه البلدان لبعضهما. وقد يصيب البعض في التلميح والتصريح أن البلدين يعيشان، كلاً في مساره، أكبر أزمة سياسية تهزّ أركان السلطة في باريس ولندن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وربما في رمزية يوم الثلاثاء في 15 من الشهر الجاري رمزية دراماتيكية وجب التوقف عندها.
يصوت مجلس العموم في لندن، الثلاثاء، على الاتفاق الذي أتت به رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي بعد مباحثات عسيرة مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل. تعتبر ماي أنه اتفاق الضرورة وهو أقصى ما استطاعت الحصول عليه من بقية دول الاتحاد الـ 27 لتحاشي أن تخرج بلادها من النادي الأوروبي دون اتفاق. وإذا ما راقبنا المشهد السياسي في لندن، فإنه من المتوقع ألا يمر الاتفاق، وأن تمنى حكومة ماي بهزيمة نكراء هي الأكبر لحكومة بريطانية منذ 100 عام.
بالمقابل، يفتتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الثلاثاء أيضا، حواراً وطنيا من المفترض أن يستغرق ثلاثة أشهر في مسعى للخروج من أزمة لم تعرف البلاد لها مثيلاً، تتجاوز في تعقدها ثورة عام 1968 التي عرفتها البلاد لمدة شهر واحد، والتي أسست لرحيل الجنرال شارل ديغول عن الحكم بعد ذلك بعامين.
دخل حراك “السترات الصفر” أسبوعه العاشر، فيما كشفت مظاهرات يوم السبت الماضي، أن هذا الحراك لم يتعب، بل على العكس، فإنه تخصّب بديناميات جديدة، وأظهر تطوراً نوعيا، بحيث بات متمأسسا لم يعد بالمستطاع الاستخفاف من تداعياته على مستقبل البلد.
يفضح هذا الثلاثاء أزمة سياسية للحكم في فرنسا وبريطانيا على نحو يداهم الطبقة السياسية في البلدين. لا أحد في بريطانيا يستطيع أن يخاطر باستشراف ما ستذهب إليه البلاد للتعامل مع استحقاق البريكست، ولا أحد في فرنسا، سياسيين ومعلقين ومؤرخين ومثقفين، لديه رواية رؤيوية للكيفية التي يمكن أن تخرج بها فرنسا من مأزقها الخانق. ظهرت قبل عقود في البلدين قامات سياسية فكرية نظّرت للحلول وقدّمت الخيارات وتقدمت على الحدث، فيما تبدو واضحة هذه الأيام حالة القحط والجفاف التي غيّبت كباراً ورهنت مصير البلدين بجرعات عالية من الارتجال وعدم اليقين لا تليق بدول عظمى لعبت دوراً مفصلياً في تحديد خرائط العالم الحديث.
تحاول ماي وصحبها التقليل من حجم الهزيمة يوم الثلاثاء. تطلق زعيمة حزب المحافظين الحاكم حملة تخويف من كارثة ستحل بالبلاد إذا ما فشلت خطتها. تحذر ماي البريطانيين من خيار الخروج من أوروبا دون اتفاق، لعل في هذا السيناريو المرعب ما يقنع البرلمانيين، لاسيما المنتمين إلى حزبها قبل الأحزاب الحليفة والمنافسة، بتمرير الاتفاق. كانت ماي أجلت التصويت من 11 ديسمبر الماضي إلى 15 يناير الجاري لعلها تقنع الأوروبيين على تعديل لهذا الاتفاق يقنع الرافضين والمشككين في لندن. جاء جواب بروكسل: هذا أقصى ما يمكن أن نقدمه، بما فُهم أن “اقبلوا بالاتفاق أو إرحلوا دون اتفاق”.
لا أحد في فرنسا مؤمن بأن الحوار الوطني الذي تنظمه حكومة باريس بإمكانه أن يحمل ترياقا يقنع المحتجين بخلع ستراتهم الصفر والعودة إلى منازلهم. بات لهذا الحراك لجان انضباط، ظهرت السبت الماضي، فيما ارتفع عدد المحتجين عن ذلك قبل أسبوع فاجتاحوا العاصمة وعشرات مدن البلاد الكبرى. الأمر يعني أن الحراك لم يعد عفويا تحركه وسائط التواصل الاجتماعي، بل بات له القدرة على استحداث قيادات ميدانية تعمل وفق دينامية تنظيمية، وبات له متحدثون مفوهون يدافعون عن مطالب سياسية تتجاوز عوامل الحراك الأولى التي كانت تحتج على إجراءات ضريبية محددة. لسان حال أصحاب “السترات الصفر” كما القيادات الحزبية والنقابية: المشاركة في الحوار دون تعويل كبير على نتائجه. فهل إلى هذه الدرجة لا تعرف فرنسا جوابا على السؤال اللينيني العتيق: “ما العمل؟”.
تسعى الطبقة السياسية في لندن إلى الاهتداء إلى جواب لـ “ما العمل”. صوّت مجلس العموم الأسبوع الماضي على قانونين. الأول يمنع الحكومة، دون الرجوع إلى البرلمان، من تقرير سياسة البلاد المالية لتنظيم عملية الخروج من بريطانيا في حال فشل تصويت الثلاثاء. الثاني يفرض على ماي، في حال عدم مرور مشروعها الثلاثاء، أن تعود بعد ثلاثة أيام (وليس ثلاثة أسابيع) بخطة بديلة. بكلمة أخرى يستعيد البرلمان بقوة القانون السيطرة على ملف البريكست. لا خطة B لدى ماي وبالتالي فإن بريطانيا مكشوفة معرّضة لمجموعة من السيناريوهات الموجعة، والتي قد تعمق الشروخ التي أصابت البنيان السياسي للبلاد منذ استفتاء البريكست في يونيو 2016.
حتى تخرج باريس من محنتها في مايو 1968، ذهب ديغول إلى تنظيم انتخابات تشريعية عامة. سحبت الحكومة البساط من تحت “الثوار” في الجامعات والميادين، وأعادت السجال إلى داخل اللعبة السياسية الدستورية. خسر ميشال فوكييه وجان بول سارتر وأصحابهما. اكتسح الحزب الديغولي الانتخابات على نحو عكس توقاً شعبيا لعودة النظام والاستقرار والاطاحة بثورة لطالما عُدت ترفاً في بلد كان يعيش بحبوحة تاريخية بعد أكثر من عقدين على زوال الاحتلال النازي.
لندن راقبت آنذاك أحداث فرنسا تلك وانتظرت بفارغ الصبر رحيل شارل ديغول الذي شكل حجر عثرة صلب ضد دخول بريطانيا النادي الأوروبي. ولندن تراقب أحداث فرنسا هذه الأيام دون أي شماتة، ذلك أن مصاب ماي الحالي لا يختلف في قوة وقعه عن مصاب ماكرون. تفرض المادة 50 من معاهدة لشبونة على بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، باتفاق أو دون اتفاق، في 29 مارس المقبل الساعة 11 مساء بتوقيت لندن. إذا ما تم تمرير الاتفاق، فستنعم بريطانيا بمرحلة انتقالية تنتهي في 31 ديسمبر 2020، وإذا ما خرجت بريطانيا دون اتفاق، فلا مرحلة انتقالية، وسيتوقف الاتحاد الأوروبي عن التعامل مع بريطانيا كدولة عضو، بحيث لا تسري عليها امتيازات العضوية في الاقتصاد والمال والتجارة.
لا تملك باريس ترف إغراق “السترات الصفر” بانتخابات تشريعية مسبقة. فالظروف الحالية التي أظهرت تحرك الشارع من خارج سياق الأحزاب والنقابات التقليدية، وأظهرت تمرد الشارع على الحكومة كما على كل الطبقة السياسية، ستحمل اليمين المتطرف إلى السلطة في أي انتخابات متعجّلة. أمر كهذا يتناقض كلياً مع “التصويت الجمهوري” الذي أدلى به الفرنسيون، قبل 18 شهراً، لحمل إيمانويل ماكرون إلى الإليزيه ضد منافسته، زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبن.
في خيارات لندن الذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة يُمني النفس بها جيريمي كوربن زعيم حزب العمال. لا يدعو الرجل إلى استفتاء آخر على مسألة الخروج من بريطانيا على الرغم من أن الغالبية العمالية تريد البقاء داخل الاتحاد. يكره كوربن بعقيدته اليسارية الطهرانية ذلك الاتحاد، لكنه قد يضطر إلى العودة إلى أحضانه. في خيارات لندن وقف تفعيل المادة 50 للخروج، أو طلب التمديد لمفاعيل ذلك بما يتجاوز موعد نهاية مارس. بالمقابل لا يبدو أن ماكرون يمتلك “أرانب” كثيرة يخرجها من أكمامه. والظاهر أن فرنسا ستتعايش طويلاً مع أزمتها بحيث يضجّ في القاعات حوار المتحاورين وتروج في الساحات احتجاجات المحتجين.