من يريد تشكيل حكومة في لبنان، شاء ذلك أم أبى، أن ينسجم مع إرادة “الضاحية”، تماما كما كان أمر ذلك يتم سابقا مع “إرادة” دمشق.
الوجه الدرزي لحزب الله يحمل شهيده
تشكيل حكومة لبنان في شكله ومضمونه كما في احتماله وعدمه رهن ما يقرره حزب الله. الأمر مرآة حقيقية لأمر الوصاية التي تمارسها إيران على شؤون البلد. كان الأمر الحكومي في عهد الوصاية السورية يتقرر في دمشق، فيما أمر الوصاية الإيرانية فتتحدد خرائطه في “الضاحية”. فإذا ما كان النظام السوري يعتبر تشكيل حكومة في لبنان شأناً مرتبطا مباشرة بالسياسة الخارجية السورية، فإن إيران تعتبر هذه الأيام أن لا حكومة في لبنان لا تتسق مع مزاج الحاكم في طهران.
المعادلة بسيطة، غير مفاجئة، حتى للأطراف السياسية المفترض أنها بنيويا في الضفة السياسية المناقضة للحزب وامتداداته. والمفاجئة هذه الأيام أن تّدعي تلك الأطراف أنها مندهشة من عقدة “سنة 8 آذار”، وأنها استيقظت على معاندة قواعد هي في أصل خرائط وصاية حزب الله، وإيران من ورائه، على مفاصل البلد وخياراته.
وفق تلك الوصاية، وليس شيئا آخر، تم انجاز التسوية الرئاسية منذ المصالحة بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” انتهاء باعتماد “تيار المستقبل” ترشيح الجنرال عون لرئاسة الجمهورية. قامت “ورقة النوايا” كما انعطافة الحريري باتجاه عون، مرورا بسليمان فرنجية قبل ذلك، على قاعدة ما يمتلكه حزب الله من نفوذ في البلد يملي، حتى على الخصوم، مسالك مناوراتهم.
تصدّعت الوصاية السورية على لبنان حين تبدلت موازين القوى الدولية على نحو معاد لاستمرارها. وعليه يتحدد مستقبل وصاية طهران على لبنان بما سيكون محرماً ومتاحاً لإيران في الشرق الأوسط. وقبل ذلك وحتى نضوج ظروف أخرى، لن تسهّل إيران، وبالتالي حزب الله، ولادة حكومة سعد الحريري وفق التوازنات التي أريد لها أن تكون لبنانية ترضي اللاعبين الكبار في لبنان.
يعيد حزب الله تذكير النخب السياسية أنه اللاعب الكبير في لبنان، وأن مداولاتهم وهمسهم وصفقاتهم وتشاطرهم، وحتى المهل التي يضعونها لتشكيل الحكومة، هي غبار تبدده العواصف حين يطلقها أمين عام الحزب، حسن نصرالله، في “إطلالة” عابرة. يعيد اللبنانيون ربط ساعاتهم بالتوقيت الإيراني، وهو توقيت، بالمناسبة، لا يتيح للعهد، بكافة رؤوسائه وصنّاعه وبرلمانه، استيلاد حكومته العتيدة. لا يستطيع لبنان أن يقابل العالم بواجهة دستورية شرعية، فيما إيران وحزب الله يواجهون من هذا العالم واجهات مهددة مهوّلة تسعى لتحجيم دورهما، إيران في الشرق الأوسط، وحزب الله في لبنان وسوريا.
أن تكون كوابح حزب الله مؤشراً على توق للانقلاب على الطائف للعبور نحو دستور المثالثة، فذلك شأن بات متقادماً وصار ناجزاً. لا يسعى الحزب لتعزيز دوره من خلال تعزيز مساحة نفوذ الشيعة داخل الفسيفساء الطائفية في البلد. يمسك حزب الله بما يتجاوز الشيعة في لبنان. أتم اختراقه لفضاءات المسيحيين والسنة والدروز، وساق كل الطبقة السياسية إلى اجتراح قانون انتخابات عجائبي تصبّ أبجدياته البسيطة داخل حسابات الحزب المعقدة.
يقطف حزب الله ثمار فلاحة قديمة بدأت منذ نشوئه في بداية ثمانينات القرن الماضي. ارتكب الحزب في لبنان دون رادع كل ما من شأنه تأكيد استقوائه على اللبنانيين ولبنانهم. تحاكم محكمة دولية متهمين ينتمون للحزب في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو أمر يمثل صلب التحول البنيوي الذي أراده الحزب للبنان. أفهم الحزب من لا يفهم، في “7 أيار”، الأمر الواقع الجديد، وأنزل منذ “اتفاق الدوحة” أعرافاً، باتت مسلمات، لا علاقة لها بدستور وتقاليد حكم وقواعد تعايش. فأن يخرج نصرالله مؤنباً منابر البلد، من ساسة ووجهاء ورجال دين، فذلك تذكير بمن أوحت له نفسه أن يؤمن بسذاجة أن لبنان بات مستقلاً يتحدد حراكه الدولي في مؤتمر “سيدر” الباريسي وحراكه الداخلي في مداولات بعبدا وبيت الوسط وبيوتات أخرى.
وفق ذلك، فإن من يريد تشكيل حكومة في لبنان، في الوقت الحالي، عليه، شاء ذلك أم أبى، أن ينسجم مع إرادة “الضاحية”، تماما كما كان أمر ذلك يتم سابقا مع “إرادة” دمشق. سيخسر لبنان كثيراً، وستمعن الأزمة الحكومية في تعميق معاناة اللبنانيين. غير أن حزب الله، لا يهتم لشأن لبنان واللبنانيين وليس أمر ذلك من وظيفته وأولوياته، ذلك أن نشوءه وبقاءه مرتبط، وبفخر كامل، وفق تصريحات زعيمه، بمصلحة الولي الفقيه في طهران.
غمز نصرالله بوضوح من قناة “انتانات” الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. في ذلك شيء من الوجاهة. فخرائط موازين القوى الحالية والتي يريد حزب الله تثبيتها واعتبارها نهائية في لبنان كما في المنطقة، لا تبيح التمرد على طهران وذراعها في لبنان. يمتلك الحزب رافداً جلي المعالم في طهران ودمشق، ويمتلك الحزب في لبنان فائض قوة عسكرية لا يمتلكها بقية “الشركاء” في الوطن. بالمقابل، وبالاتعاظ من تجارب سابقة، لا يمتلك خصوم الحزب المفترضين إلا دعاء الأصدقاء في العالم.
قد يجوز التعويل على الحملة التي تخوضها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران. تبدو الهمّة عالية لرفع تأثير العقوبات وجعلها موجعة على الحاكم في طهران، وتبدو حيوية مبعوث واشنطن جيمس جيفري، لافتة كمؤشر على جدية أميركية (وربما روسية) لإخراج إيران من سوريا. بيد أن ذلك التعويل لا يأخذ بعين الاعتبار ضريبة الوقت القاتلة بالنسبة لبلد مثل لبنان، كما لا ينتبه إلى أن الصفقة التي تريد واشنطن إبرامها مع طهران، قد تأخذ بالاعتبار مصالح في المنطقة وتهمل مصالح أخرى، ولا شيء يمنع من أن يدفع لبنان ثمن ما دفعه سابقا داخل صفقة أبرمتها واشنطن مع سوريا حافظ الأسد.
نعم إيران وصية على لبنان، وحتى إشعار آخر. وفي لبنان مثل شعبي يقول أن “من شرب البحر لا يغصّ بالساقية”، ذلك تماما ما دفع جنبلاط نفسه للاستنتاج أن “التسوية ضرورية أيا كانت مرارتها تفاديا للانهيار”. وعلى الرغم من أن مفاجأة تحرك “الدولة” ضد حليف حزب الله، وئام وهاب، تشي بمعطيات تملكها تلك “الدولة”، إلا أن الأمر يذكرنا بقرارات “الدولة” في “5 أيار” التي أطاحت بها الميليشيا في “7 أيار”. ربما التاريخ لا يعيد نفسه، وربما يعيد.