روسيا تدرك أن إدلب غير ما قبلها. “أم المعارك” السورية تنتظر ترتيبات أكبر.
سوريون يفرون نحو تركيا مع اقتراب المعارك من إدلب باب نهاية الحرب السورية أم بداية الحرب العالمية؟
تملك واشنطن معطيات دقيقة عن ظروف وشروط معركة إدلب وموازين القوى في تلك المنطقة. ويشي ما يتسرّب من تقارير أن الولايات المتحدة تعتبر أن المعركة صعبة وأنها لا تشبه في ظروفها تلك التي خاضها النظام في مناطق أخرى. وتعتبر مصادر البنتاغون أن غياب أي تغطية إقليمية دولية لبقاء المعارضة في تلك المناطق التي هزمت بها المعارضة، كان تواطؤا كاملا من قبل مراجع إقليمية ودولية، أميركية خصوصا، لإسقاط تلك المناطق وإنهاء وضعها العسكري لصالح النظام في دمشق. وتعرف واشنطن كما موسكو أن التسويات التي افتتحت منذ تلك في حلب عام 2016 انتهاء بتلك في الجنوب قبل أسابيع مرورا بالغوطة حول دمشق قبل أشهر جرت بالتنسيق الكامل مع تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة وبعض عواصم الخليج. بيد أن معركة إدلب، على ما كشفت مداولات قمة رعاة آستانا الأخيرة في طهران، تجري دون تلك الرعاية الإقليمية الدولية المعتادة.
والظاهر أن صعوبة المعركة هي ما يفسر جلبة التلويح بالأسلحة الممنوعة بصفتها خيارا حتميا تحذر منه مسبقا، للمفارقة، موسكو قبل واشنطن. والظاهر أيضا أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الأطلسي يدركون أن دمشق وحليفيها في طهران وموسكو قد يستعينون بالأسلحة الكيماوية في محاولة لإسقاط إدلب بأسرع وقت ممكن وبأقل الخسائر عند المهاجمين. وعلى هذا أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب التحذير وراء التحذير من مغبة أي استعمال لأسلحة الدمار الشامل، وعلى هذا صدر عن العواصم الأوروبية، ما يشبه العزف الجماعي، في التهديد بردّ مدمر على أي لجوء للأسلحة الكيماوية في معركة إدلب المقبلة.
تختلف مقاربة الغرب في إدلب عن تلك في المعارك السابقة. انتهجت واشنطن وحلفاؤها استراتيجية تواكب بالدعم الاستراتيجية الروسية في سوريا. تكامل هذا السلوك مع “وكالة” مُنحت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ سبتمبر 2015، حين رعى لقاء جمعه بنظيره الأميركي آنذاك باراك أوباما (على هامش المؤتمر السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في ذلك العام) الورشة الروسية المقترحة لإخماد البركان السوري. تكفل الزعيم الروسي آنذاك بحلّ المعضلة السورية عسكريا مستفيدا من استقالة غربية كاملة من أي انخراط في المقتلة السورية. بدا أن الأميركيين والأوروبيين لم يكن أمامهم بدائل لرد الإرهاب وموجات اللجوء التي تقذفها الحرب في سوريا، إلا الاستسلام لخيار بوتين، لكن “حتى إشعار آخر”.
تتصادف معركة إدلب مع هذا الإشعار الآخر. تقدم موسكو المعركة بصفتها “أم المعارك” وآخرها. وعلى أساس “النصر” في هذه المعركة” تمدّ روسيا سكك الحل السياسي، بحيث تتكامل القماشة السياسية لمستقبل النظام في سوريا مع البطانة العسكرية التي نسجتها منذ ثلاث سنوات. غير أن طبيعة الإشعار الآخر تختلف هذه المرة عند الغرب عنه عند بوتين.
تريد المجموعة الغربية أن تكون إدلب مناسبة للعبور إلى الحل السياسي وفق رؤى تختلف عن تلك التي تطمح إليها موسكو. تنشط العواصم في الجهر أن “النصر” العسكري لا يعني نصرا سياسيا لنظام بقيادة بشار الأسد. تجمع منابرها على الإعلان عن أن لا رعاية أممية لحل سياسي ولا مداخل لإعادة اللاجئين وإعادة الإعمار قبل التوصل إلى حل سياسي يقبله السوريون ويقبله المجتمع الدولي، على أن يُحدد بمقتضاه مصير الأسد الذي يُعتبر بقاؤه “خطأ كبيرا” وفق كلمات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
على هذا تبدو معركة إدلب ذات بعد غربي جديد قد يأخذ أشكالا أكثر وضوحا وعدائية. وفق هذه الحقيقة تروج في الصحافة الأميركية تقارير تتحدث عن أن ترامب يدرس خيارات عسكرية من ضمنها ضرب القوات الروسية والسورية والإيرانية في سوريا. ولن تكون هذه التقارير إلا واجهة لأعراض غير رسمية تظهرها واشنطن لحلفاء دمشق، في مقدمهم روسيا، عن جدية إقران الفعل بالقول في مسألة الذهاب في إدلب مذاهب لا تتسق مع استراتيجيات واشنطن الجديدة. وفي هذا أن مزاج واشنطن متعكّر ليس فقط ضد معركة تستخدم فيها أسلحة كيماوية، بل حتى أسلحة تقليدية، وفق ما أعلنته نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة الشهيرة لدى مجلس الأمن.
تقرأ موسكو جيدا المشهد الدولي الجديد والمتغير حيال المسألة السورية. يجيد الرئيس الروسي ووزير خارجيته ادعاء قلة الفهم واستغراب مواقف واشنطن وباريس ولندن وبرلين. تلتصق موسكو وطهران داخل خندق واحد مناكف لتركيا في القمة التي جمعت زعماء البلدان الثلاثة في طهران الأسبوع الماضي. يخيل للمراقب أن موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان متضعضع في مواجهة شركائه في قمة آستانا، غير أن في مناورات الرجل وحركة الجيش التركي في الشمال السوري ما يكشف عن معطيات أخرى يملكها الرجل ترتبط بموقف الأميركيين والأوروبيين من المسألة السورية.
غير أن بوتين الذي تمكن من قضم منجزاته وتحويل بلاده من موقع الانكفاء والدفاع إلى موقف العدائية والهجوم، سيجد في إدلب ميدانا مجانيا آخر لتفحص مناعات هذا الغرب ومدى امتلاكه استراتيجيات حقيقة جديدة لمواجهة الأمر الواقع الروسي في سوريا. وعلى هذا ستطول كثيرا معركة إدلب ستكون متقطعة في الزمان متفرقة في المكان وسترتبط طبيعتها بنوعية الكوابح التي سيضعها الغرب أمام روسيا وزعيمها. ولا تتعلق المسألة في بعد تقني عسكري مرتبط بإدلب فقط، بل بما يدركه بوتين من أن مقاربته الروسية لم تر النور إلا برعاية غربية وهي لا يمكن أن تصل إلى ما يطمح إليه من خواتيم إلا بهذه الرعاية.
تُفرج المواقف الغربية الجديدة عن أن الغرب ينهي حصرية روسيا في قيادة ورعاية ومباركة الحلّ النهائي في سوريا. وتفرج مواقف واشنطن، التي أعلن عنها الموفد الأميركي المعين حديثا لمتابعة التسوية السورية جيمس جيفري، من أن لا انسحاب أميركي من سوريا وأن الوجود هناك دائم، عن مناخ مختلف عما أعلنه ترامب نفسه في إبريل الماضي من عزم على إنهاء الوجود الأميركي في هذا البلد. وقد لا ننتظر كثيرا قبل أن نكتشف أن قوات أطلسية تطل برأسها منذ أن اقترح الرئيس الفرنسي على العاهل الأردني نشر قوات فرنسية على الحدود المشتركة السورية الأردنية.
قد يكون من الصعب تصور صدام عسكري غربي روسي على مستوى قد يشعل حربا كبرى. لكن درس خيارات في واشنطن تضع الأمر في مستوى محتمل قد ينبه الجانب الروسي إلى سوابق في الصراع السوري قامت بها طائرات التحالف الدولي بقصف أهداف روسية “عن طريق الخطأ”. بعض هذه الأخطاء ارتقى في فبراير الماضي إلى مستوى المجزرة بحق مرتزقة روس قيل إن مئات منهم قتلوا حين تجاوزوا ما اعتبره الأميركيون خطوطا حمراء بالقرب من دير الزور شرق البلاد.
والمرجح أن تفهم روسيا أن التصعيد الجديد الذي صدر من لندن بشأن مسؤولية عميلين من المخابرات الروسية في محاولة اغتيال العميل الروسي المزدوج سيرجي سكريبال هو علامة جديدة على تشدد سينتهجه الغرب في التعامل مع “الحالة” الروسية. والمرجح أيضا أن تدرك موسكو أن إدلب قد تقلب حسابات روسية دقيقة وأن وضع الفيتو على أي حسم في هذه المنطقة يتطلب ترتيب تفاهمات جديدة لن تقوى موسكو على اهمالها.