بغض النظر عن البنود النهائية التي سيتم اعتمادها لتثبيت الهدنة بين إسرائيل وحركة «حماس» في قطاع غزة، فإن الحدث بحد ذاته يمثل تحوّلاً لافتاً يستحق التأمل لجهة انخراط إسرائيل في عملية تفاوض وصولاً إلى بلوغ اتفاق مع «منظمة إرهابية» في عرف مؤسسات الأمن والعسكر والسياسة، ولجهة انخراط «حماس» في عملية «سلم» تحمل اسم التهدئة مع «عدو لا مجال لوقف المقاومة ضده»، وفق أبجديات الشيخ أحمد ياسين وقيادات الفرع الفلسطيني لحركة «الإخوان المسلمين» من بعده.
يجري أمر «التهدئة» وفق وساطة ورعاية مصريين. تقارب القاهرة الأمر من منظور يتعلق بأمن مصر الاستراتيجي، وليس من منظور سياسي طويل الأجل تشي به بعض إرهاصات «صفقة القرن» المزعومة. يتعامل الطرف المصري مع «الأمر الواقع» لغزة بغض النظر عن موقفه العقائدي من حركة «حماس» وموقفه السياسي من مسألة الانقسام الفلسطيني وعلاقته مع رام الله والسلطة الفلسطينية هناك. الهدف هو فرض تهدئة في هذه المنطقة الحدودية، بما يخفف من الأزمة الإنسانية في القطاع التي باتت، للمفارقة، تثير كثيراً من القلق الدولي، بما في ذلك الأميركي الذي يعبر عنه، للمفارقة أيضاً، جاريد كوشنر وفريقه.
تقبل حركة «حماس» تهدئة طويلة الأمد مع إسرائيل، بما يحرك مياهاً راكدة تخطّ كثيراً من السطور حول ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى مستقبل «القضية الفلسطينية». فأن تفاوض «حماس» إسرائيل في وقت تتوقف المفاوضات بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية، وأن يتم إبرام اتفاق «حمساوي» – إسرائيلي فيما يصعب إبرام اتفاق بين «حماس» وفتح، ففي ذلك كثير من المفارقات التي تشبه الانقلابات وتبدل الأطباع واختلاط الأولويات على نحو ما زال من العسير فك ألغازه.
تشم السلطة الفلسطينية رائحة نتنة من تلك المداولات الناشطة بين غزة وتل أبيب. الأمر بالنسبة إلى رام الله وحركة فتح يعد تجاوزاً لمنظمة التحرير الفلسطينية وتجاوزاً لقيادة السلطة، في أمر يتعلق بفلسطين، وتقسيماً للحالة الفلسطينية، وجعلها حالتين يتم التعامل معهما من جانب إسرائيل ومصر، وحتى من جانب الولايات المتحدة وفق أفكار كوشنر وصحبه «الإنسانية» تجاه غزة.
يخرج بيان المجلس المركزي لمنظمة التحرير الأخير مديناً أي مشروع قيد الإعداد لإقامة دولة فلسطينية في القطاع، مضيفاً، في المقابل، أن «لا دولة فلسطينية من دون غزة».
تسعى القاهرة إلى تدوير زوايا هذا التناقض الفلسطيني الداخلي الذي بات بنيوياً في الجسم الفلسطيني منذ مواجهات غزة الشهيرة بين فتح و «حماس» في غزة عام 2007. وعلى رغم قلة المعلومات المتعلقة بزيارة عباس كامل، رئيس المخابرات العامة المصري، الرئيس محمود عباس والتداول معه في شأن التهدئة الغزية العتيدة، إلا أن في هذا الغموض ما يفرج عن حنق في رام الله على ورشة لافتة ليست طرفاً أساسياً داخلها. ثم إن المزاج الأميركي – الإسرائيلي الذي يجد في «حماس» شريكاً لعقد التفاهمات، حتى لو كان طابعها حتى الآن عسكرياً أمنياً معيشياً، ينبه أبو مازن وحكومته و «مركزياته»، إلى أن العالم يتغير وله وجوه تتجاوز المألوف الذي عرفه الفلسطينيون منذ اتفاقات أوسلو عام 1993.
قطع الرئيس عباس التواصل مع واشنطن، سحب سفيره من هناك، ورفض ويرفض اللقاء بمبعوثي الولايات المتحدة الذين توقفوا عن طرق باب «المقاطعة» في رام الله. فهم العامة موقف أبو مازن بصفته رداً على تحولات الولايات المتحدة المستفزة حيال القدس. صفقوا لذلك ثم نسوا تماماً أمر ذلك. لم يفهم المراقبون للشأن الفلسطيني قرار عباس ونجاعة ذلك في علم السياسة والديبلوماسية. رأوا أن «شعبوية» ذلك القرار لا تشبه أبو مازن ونهجه الذي لطالما نظّر للعقل والتعقل في مقاربة المشهد الدولي. واجه الرئيس الفلسطيني بشجاعة نمطاً «ثورياً» متقادماً وبشّر بالدفاع عن حقوق فلسطين بطرق أبواب العواصم الكبرى، لا سيما واشنطن التي استقبل فيها، بحفاوة، من جانب دونالد ترامب الذي ارتكب خطيئة القدس. فإذا ما خسر أبو مازن سبيل واشنطن فأي سبل بديلة يسلك هذه الأيام.
لا شيء يمنع قيادة رام الله من اتخاذ أشد المواقف حدة وصرامة وقسوة ضد قرار واشنطن ورئيسها في شأن القدس. بيد أن راديكالية هذا الموقف لا تتناقض مع استمرار التواصل مع هذه الولايات المتحدة التي لا تختصر بترامب وصهره. وما فهمه عباس في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات تدركه «حماس» هذه الأيام فتمضي ببراغماتية رشيقة تسبب كل هذا القلق لإبرام تفاهمات قد تؤسس لما بعدها، من دون المخاطرة في الخوض بما بعدها.
يؤكد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي السابق لحركة «حماس»، قبل أيام، أن صفقة القرن مرفوضة وأنه على رغم الخلافات الداخلية الفلسطينية فإن الكل مجمع على رفضها من دون لبس أو تواطؤ. يدرج الرجل أمر «التهدئة» في خانة التخفيف من معاناة الغزيين التي تبرر التفاوض والتفاهم ووقف نار طويل الأمد ينهي الصدام موقتاً، علماً أن هذا الموقت قد يطول جداً. تسوّق «حماس» لـ «صفقتها» مع إسرائيل من دون أي أسئلة داخلية حول العبقرية في نسج «سلم» مع العدو والعجز عن نسج صلح مع الشركاء في الوطن. ثم إن «حماس» التي ستوقع على الاتفاق العتيد تبدو غير معنية أو متحمسة لأن تبارك رام الله والسلطة ومنظمة التحرير شأناً يمسّ الفلسطينيين في جزء من الدولة الفلسطينية المتوخاة.
في مطبخ العبور إلى «التهدئة» قرقعة طناجر لا تطلق عن هوى بل هي مستوحاة من همهمات تنشط في دفاتر صفقة القرن الموعودة. يسمع الغزيون جلبة «مطار» و«ميناء» وفتح معابر وتدفق سلع، حتى إن ثرثرة إسرائيلية تحدثت عن «سنغافورة» آتية إلى غزة. في ذلك ما يشي بأن غزة ليست تفصيلاً عارضاً، بل هي جزء من تموضع آخر للمنطقة في ما يدبر لسورية وتركيا وإيران ولثورة الغاز شرق المتوسط.
«غزة أولاً» شعار شهير تقدمَ عنواناً وواجهة لاتفاقات أوسلو الشهيرة في مرحلة سابقة. «غزة أولاً» شعار جديد يمثل إحدى ضرورات خرائط المرحلة الراهنة. أدركت «حماس» والقاهرة وتل أبيب جسامة ذلك. ربما على الجسم الفلسطيني برمته، رأساً وأجهزة ومؤسسات، أن يدرك هذه اللحظة وأن لا يتأخر عن اللحاق بقطارها. الأمر يستدعي ربما من رام الله وقف سياسة الحرد وإعادة وصل ما انقطع مع من بيده رسم الصفقات وتعديلها وتحديد وجهة مساراتها.
«حماس» ستعتبر «التهدئة» انتصاراً… لا يهم، فلتبحث فلسطين عن انتصارها.