“عرب تركيا” يرون في تركيا زعيما يكثفون الدعاء له ولا يرون أتراكاً سيعملون على انتشال بلدهم من نكسته.
فنان قطري يهدي تخطيطا للرئيس التركي مشاركة صورية من قطر
أهل تركيا “أدرى بشعاب” تركيا، ولن يكون “عرب تركيا” أكثر حرصاً على الأتراك وبلدهم. وفي ورشة الردح الجارية حالياً ضد “المؤامرة الصليبية” ضد “تركيا المؤمنة”، أعراض أخرى لمرض قديم جديد لا يهملنا نقرأ فيه حدث اليوم بأدوات وتعويذات الأمس.
لا يمكن لنفس الحدث الحسابي أن ُيلاحظ بأعين متفاوتة وبعدّة متناقضة.
للغة الأرقام في حسابات الميزانية والعجز والنمو وسعر العملة مسببات علمية مثبتة لا جدال حولها. وهي في ارتباكها في تركيا منذ سنوات تتأسس على سياسات خاطئة في علم الاقتصاد قد لا تكون بعيدة عن مزاج آخر طرأ على حكم رجب طيب أردوغان وحزبه. وفي البحث عن ترياق للعلّة وعن حلول للمشكلة، فإن الخيارات تقنية والتدابير موضوعية تلجأ الحكومة التركية هذه الأيام إلى بعضها وستلجأ إلى أكثر منها لاحقاً للخروج من دوامة مقلقة. فالأزمة لن توقفها استثمارات قطر الحديثة ولا دعوات أردوغان مواطنيه للتمرد على الدولار والتخلص من لعناته.
وفيما تعرب عواصم أوروبية كما أسواق دولية عن قلقها من تأثر اقتصاداتها بالأزمة في تركيا، تعبر منابر عربية عن خشيتها من أن يكون للأزمة النقدية في تركيا مفاعيل مقوّضة للرعاية التركية لتيارات الإسلام السياسي التي جاهرت في السنوات الأخيرة بإعلان بنيوية بقائها وديمومتها بصلابة وجود أردوغان وصحبه على رأس السلطة في أنقرة. بمعنى آخر فإن عواصم العالم ستعمل، صيانة لمصالحها، على مدّ يد المساعدة لإنقاذ الاقتصاد التركي وانتشاله من كبوته، فيما سيُكثر الغيورون العرب من الدعاء لنصرة “الرجل المؤمن” وحمايته من أعدائه الكفار.
لا مصلحة دولية، لاسيما أوروبية، في انهيار الاقتصاد في تركيا. ولا مصلحة لدائني تركيا في العالم أن تتعرض سيولة تركيا لخطر يمنعها من سداد قروض خارجية تراكم حجمها. ولا مصلحة، حتى للولايات المتحدة في أن ترتبك المؤشرات الاقتصادية التركية على نحو يضخ في المنطقة فوضى جديدة تحاول ضبطها وإعادة ترتيبها. يعرف الرئيس أردوغان ذلك، وهو وإن كان ممعناً في إطلاق خطاب شعبوي يمتص به قلق الداخل ويبرر من خلاله مصاب الليرة التركية، يتواصل مع برلين وعواصم أوروبية أخرى ينهل منها الدعم في القول والعمل قبل أن يصبح مجبراً لسلوك الطريق نحو المؤسسات المالية الدولية الكبرى، البنك وصندوق النقد الدوليين.
كان لأسباب الازدهار في الاقتصاد تركي في السنوات الأولى لوصول أردوغان وحزبه إلى السلطة أسباب اقتصادية دقيقة نتجت عن قرارات كبرى في السياسات الداخلية والخارجية للبلد. ربطت أنقرة قوتها الاقتصادية بسلسلة اتفاقات وتفاهمات مع الاتحاد الأوروبي وحررت عوامل الإنتاج والتجارة من كوابحها القديمة وراحت، وفق عقيدة “صفر مشاكل” التي نظّر لها أحمد داود أوغلو، تفتح أسواق المنطقة كما أسواق العالم لمنتجات احترمت والتزمت معايير النظام الاقتصادي الدولي المعولم.
وإذا ما راكم المراقب طباعاً جديدة طرأت على كيفية إدارة أردوغان لحزب العدالة والتنمية كما إدارة الشأن العام في تركيا في السنوات الأخيرة، لأمكن له بسهولة استنتاج كثافة العوامل التي أضعفت مصادر القوة في اقتصاد البلد وتضخم حجم الخلايا المريضة التي بدأت تفتك بالمنظومة الاقتصادية والمالية في البلاد. غاب أحمد داود أوغلو عن المشهد، بات “تصفير المشاكل” من الماضي، وانحرفت أنقرة باتجاه اشتباك متعدد الجبهات في سوريا والعراق، كما ضد روسيا والولايات المتحدة، ورعت تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي بما أثار سخطاً وريبة وخصومة داخل النظام العربي من طموحات رجل تركيا القوي وحنينه العثماني في المنطقة.
غاب الرئيس التركي السابق عبدالله غول. بات هامشاً بعد أن كان في متن الصعود الأردوغاني عام 2002. وغابت عن قيادة الحزب الحاكم وجوه من القادة الذين وطدوا حضور “العدالة والتنمية” داخل قطاعات المال والأعمال، كما أسسوا لفلسفة تعولم تركيا داخل قواعد القرن الواحد والعشرين. صار اقتصاد البلد عاجزاً عن الحفاظ على ديناميات ازدهاره وسيولة انسيابه داخل أسواق العالم في وقت اصطدم فيه الرئيس أردوغان بدول الاتحاد الأوروبي، لاسيما أثناء الترويج داخل أوروبا للاصلاحات الدستورية التي منحته هذه الأيام صلاحيات رئاسية مطلقة.
ليست أزمة الاقتصاد في تركيا حدثاً استثنائيا في هذا العالم. غير أن ما هو أزمة في الأرجنتين أو باكستان أو مصر يعبّر عنه بلغة الاقتصاد ومنطق الأرقام، فيما يريد “عرب تركيا” أن لا يروا في أمر الأزمة في تركيا إلا مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. بدا أن الأتراك أنفسهم، لاسيما كتلة الحزب الحاكم الناخبة لا ترى في أزمة بلادها ما يراه الأردوغانيون في الخارج.
واجهت القاهرة أزمتها الاقتصادية المزمنة بمجموعة من التدابير والإجراءات الصارمة والقاسية وبالمواكبة الكاملة لصندوق النقد الدولي. “باكستان الجديدة” بقيادة عمران خان تسعى للتخلص من أزمتها بالتوجه إلى طلب عون باكستان والسعودية قبل أن تلجأ ربما إلى صندوق النقد الدولي، فيما يسعى مهاتير محمد في ماليزيا إلى ترتيب علاقاته الاقتصادية مع الصين على الرغم من أن حملته الانتخابية استندت على شن حملة لتخليص البلاد من الانكشاف لبكين وفق خطط سلفه نجيب رزاق.
قد يكون الرئيس الأميركي أكثر المندهشين من قدرات تغريدتين له على “تويتر” على أحداث هذا الزلزال الاقتصادي في تركيا. لم يحدث ذلك مع كندا ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين التي يعاقبها ترامب بوتائر أكثر قسوة في إطار حربه التجارية الشعواء. وقد يكون الرئيس التركي أكثر إدراكاً لما يمكن أن يخسره وما يمكن أن يربحه من إعادة تموضع جديد لبلاده في الداخل والخارج لاستعادة أمجاد اطلالاته الأولى على الحكم في أنقرة.
فقدت تركيا دينامياتها الذاتية بعد أن تنازلت لرئيسها ومنحته صلاحيات مطلقة أطبقت على محركات البلد بما في ذلك الاقتصاد والعملة والمصرف المركزي. في ذلك أن السوق لا يحب إلا نفسه ولن يجاري رئيسا طموحاً يرى تركيا من خلال نفسه وما امتلكه من صلاحيات من أجل ذلك. والظاهر أن “عرب تركيا” يرون في تركيا زعيما يكثفون الدعاء له ولا يرون أتراكاً سيعملون على انتشال بلدهم من نكسته.