لن يقوم عمران خان باختراع باكستان بل القبول بأمرها الواقع. البلد مسلم ومجتمعه مسلم تروج داخل بيئاته تشكلات متعددة للإسلاميين.
عمران خان لن يقوم باختراع باكستان
لا يمكن للعواصم الكبرى التي تمسك بمسار ومصير عالم اليوم إلا أن تلتفت بجدية وجزع إلى ما أنتجته الانتخابات التشريعية الأخيرة في باكستان. ففيما يعيد الرسامون تخيل الخرائط الجيواستراتيجية الجديدة التي تنتجها ظواهر فلاديمير بوتين ودونالد ترامب والبريكست ووقائع الحرب التجارية المتعددة الأطراف، فإن فوز حزب عمران خان في باكستان قد يكون حدثا مفصليا ليس في تحديد مستقبل البلد، بل في تحديث معطيات ذلك.
قد يبدو أن تزعم خان للبلد الذي عُرف بعلاقاته التاريخية القديمة مع الولايات المتحدة أكثر انسجاما من ذلك الزواج الذي جمع واشنطن والغرب بالإسلاموية والتأسلم السياسي في إسلام أباد. فالرجل، في سيرته ومظهره وسلوكه وتخرجه في أكسفورد، غربي المزاج والمنهج والمنطق. ومع ذلك تبدو الدوائر الدولية، لا سيما الغربية، حتى الآن مترددة متحفظة في كيفية التعامل مع هذا الوجه غير المألوف في عرف السياسة الدولية.
ولئن عرفت المنابر الدولية خان بصفته لاعبا دوليا قاد فريق بلاده لنيل بطولة العالم في الكريكت عام 1992، ولئن جعله زواجه الأول من بريطانية يهودية ثم قصصه النسائية الكثيرة بعد ذلك نجم صحافة الإثارة الدولية، إلا أن ما صدر عنه من مواقف سياسية مؤخرا ألقى مزيدا من الضباب على هوية الرجل على رأس السلطة وهواه.
قبل أشهر، شيء ما حمل الدولة العميقة في أثيوبيا على فتح طريق السلطة أمام شخصية لافتة مثل آبي أحمد. وفي البحث وراء كواليس فوز عمران خان قبل أيام رائحة دولة عميقة مّا في باكستان تحركت لتقطع مع تقاليد في الحكم من أجل ولوج تقاليد أخرى. في ذلك قيل الكثير عن وقوف الجيش الباكستاني وراء فوز الرجل، وهو فوز ملتبس صاحبته شكوك واتهامات بالتزوير.
أصيب زعيم حزب الشعب بيلاول بوتو زرداري ورئيس الوزراء السابق شاهد خاقان عباسي بالهزيمة، وسددت الانتخابات ضربة موجعة لزعماء الأحزاب الدينية والعرقية الذين لطالما رانوا الواقع السياسي في البلاد في العقود الماضية.
شكّل فوز عمران خان مفاجأة في زمن باتت فيه المفاجآت قانون العالم الحديث، تفاجأت فرنسا بانتخاب إيمانويل ماكرون رئيسا للجمهورية مطيحا بكل الأحزاب التقليدية الكبرى، يسارا ويمينا. وتفاجأت الولايات المتحدة بانتخاب دونالد ترامب رئيسا بعد أن أطاح بهيلاري كلينتون تلك المنافسة العريقة التي توقعت كافة استطلاع الرأي لها ببلادة الفوز الأكيد، وكان أطاح قبلها بـ18 مرشحا عن الحزب الجمهوري. وتفاجأت بريطانيا حين أفاق أهلها بعد استفتاء 23 يونيو 2016 وقد وجدوا أنفسهم خارج الاتحاد الأوروبي.
ترهلت الطبقة السياسية في واشنطن وباريس ولندن وأي عاصمة أطاحت بها المفاجآت. كلمة سرّ خان كانت رتيبة تقليدية يروج لها كل المطلين الجدد على أي حكم: “مكافحة الفساد”. والمعادلة بسيطة: “كل من حكموا البلاد قبل ذلك فاسدون”، وفي ذلك وجاهة، وبالتالي فإن المطلوب بات إبعاد بارونات السياسة وعائلاتها الكبرى، لا سيما بوتو العريقة في السند وشريف الشهيرة في البنجاب.
أسس عمران خان وقاد حزب “حركة الإنصاف” عام 1996. كان مطلوبا أن يحمل الحزب الرجل الرياضي الشهير الذي كان الرقم الأول في بلاده في الكريكت ليكون الرقم الأول في حكم باكستان. لم تكن فلاحته ميؤوسة؛ حملت انتخابات عام 2013 الحزب ليكون القوة الثالثة في البرلمان، وكان يحتاج إلى 5 سنوات أخرى ليحتل المرتبة الأولى ويصبح زعيمه رئيسا للوزراء.
لا نعرف كثيرا عن “باكستان الجديدة” التي رفعها خان شعارا لحزبه. فاز خان في الانتخابات لكنه سيبقى محاطا بـ”باكستان القديمة”، ما زال حزب الشعب مسيطرا في السند وحزب نواز شريف مهيمنا في البنجاب
عمل عمران خان وحزبه بدأب بشكل يومي لحصد حضوره داخل أقاليم باكستان الواسعة. رفع الرجل دائما لواء محاربة فساد من يحكمون مستفيدا من كونه حزبا لم يحكم أبدا. اعتمد الحزب على حراك ميداني صدامي داخل كل الاحتجاجات الشعبية التي طالبت بالإطاحة بنواز شريف (والتي قيل إن الجيش كان وراءها)، قبل أن تحمل تسريبات بنما عام 2016 حول مداخيل ملتبسة لعائلة شريف ماء وفيرا إلى طاحونة خان. فسقط الأول وتعبدت طرق الزعامة أمام الثاني.
لا نعرف كثيرا عن “باكستان الجديدة” التي رفعها خان شعارا لحزبه. فاز خان في الانتخابات لكنه سيبقى محاطا محاصرا بـ”باكستان القديمة”؛ ما زال حزب الشعب مسيطرا في السند، وما زال حزب نواز شريف (جناحه في “الرابطة الإسلامية”) مهيمنا في البنجاب. ولا نعرف كثيرا عن خان الفائز الذي تحاصره اتهامات وشائعات حول ثروته وعلاقاته وارتباطاته وأجنداته.
ولا ريب في أن الرجل المغتبط بموقعه السامي الجديد على رأس السلطة في بلاده، يتأمل ملياً خنادق الحصار في الداخل كما تلك التي ستواجهه في الخارج.
سيكتشف خان سريعا أنه ابن باكستان المتوترة تاريخيا مع الهند. سيقرأ فصولا عما يعنيه أن يحكم دولة محاذية لأفغانستان يجمعهما تاريخ معقّد إبان عهود مكافحة الاتحاد السوفييتي. سيتذكر علاقة إسلام أباد بواشنطن أيا كان شكل الحكم في الأولى، وأيا تكن هوية الحاكم في الثانية. سيتعرف عن كثب على ما أحرزته الصين من اختراقات لا رجعة عنها في بلاده. وستتراكم فوق مكتبه تقارير عن ضلوع مخابرات بلاده في أنشطة تفهمها أجهزة المخابرات ولا يفهمها عتاة الدبلوماسية.
لن يقوم عمران خان باختراع باكستان، بل القبول بأمرها الواقع. البلد مسلم ومجتمعه مسلم تروج داخل بيئاته تشكلات متعددة متباينة للإسلاميين. لن تكون يسيرة قيادة البلد نحو خيارات جديدة لا تأخذ بعين الاعتبار ثوابت لا وقت لتخيل تغيُّرها.
وفي منطق المصالح الذي يَعِد الباكستانيين باعتماده بدل التوجهات العقائدية، فإنه سيدرك أن علاقات باكستان الخليجية يفرضها واقع العمالة الباكستانية الكثيفة، كما الحجم الهائل للاستثمارات الخليجية في البلاد، كما حقبات تاريخية جعلت أمن باكستان الاستراتيجي مرتبطا دائما بأمن الخليج والخليجيين.
قد يكون من أبجديات إطلالة أي حاكم جديد لباكستان أن يعد بعلاقات سوية جديدة مع كل دول العالم لا سيما دول الجوار. دعا خان إلى علاقات جيدة مع إيران لكن ذلك لا يعني أن انقلابا قادما في هذه العلاقات. وفي هذا أن واقعا جديدا طرأ على المشهد الدولي لا سيما في حلقة العلاقة الصدامية الجديدة بين الولايات المتحدة ونظام ولاية الفقيه في طهران، وأن المسار الذي دُشّن في واشنطن ويتقيد به العالم دولة بعد أخرى للضغط على إيران، هو القاعدة التي ستحترمها “باكستان الجديدة” بحذافيرها مهما كان جديدها.
قد يكون منطقيا أن باكستان المنفصلة بشكل مأساوي عن الهند الأم، والمندرجة آليا في حلف الغرب أثناء الحرب الباردة والمنخرطة في حروب أفغانستان، ما زالت لم تعرف انتهاء تلك الحروب.
ما زالت إسلام أباد تبحث عن نقطة توازن أخرى تخلّصها من أبجديات قديمة للدخول في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي و”القاعدة” والحروب بالوكالة من خلالها. وقد يكون منطقيا أن باكستان تحتاج إلى أن تكون “جديدة” كي يتبيّن الباكستانيون والعالم المعالم الأخرى لباكستان ما بعد حكم العائلات وربما حكم العسكر.
والعالم الذي رحب بالجديد الذي أطل في فرنسا، وتوجّس من ذلك الذي ولج البيت الأبيض، وتوجّع من مفاجأة البريكست في بريطانيا، واستبشر خيرا بمفاجأة الحكم في أثيوبيا، ما زال مرتبكا أمام “جديد” باكستان، ذلك أنهم يجهلون عمران خان رغم نجوميته الشهيرة.
في ما يُكال للرجل أنه تحالف مع طالبان باكستان والتصق بأجندة العسكر للوصول إلى السلطة، يتأمل البعض الحدث ويتساءل: أين الجديد؟
وفي ما غرد به دونالد ترامب من استعداد للقاء قادة إيران دون شروط مسبقة ما لفت أن واشنطن باتت ترى أن باكستان النووية أخطر من إيران وأحلامها النووية.