حزب الله سرق النصر النظيف للجيش اللبناني وأعاد وضع ذلك الجيش داخل مربعات لا تحيد عن أجندة الحزب وخطط رعاته.
سعى حزب الله منذ عام 2000، أي بعد الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، إلى التعامل مع الجيش اللبناني بصفته مؤسسة شكلية شأنها في ذلك شأن بقية المؤسسات الدستورية للدولة اللبنانية، تأتي على هامش الفعل الدفاعي الحقيقي الذي تمثله “المقاومة”. وفي مقاربته المنهجية لمعنى الدولة وجيشها، لم يعتبر الحزب يوماً جيش لبنان ركن الدفاع الأول عن البلد، بل ذهب إلى التعامل مع هذا الخيار بصفته عاملاً نقيضاً لـ “المقاومة”، وعمل على منع مرابطته على الجبهات الحدودية مع إسرائيل.
جهد حزب الله ونظامي دمشق وطهران، بحجج شتى، على إبعاد قوات الشرعية اللبنانية عن جنوب لبنان. تأسست تلك الحجج على أن الجيش اللبناني ضعيف وسيتم استفراده من قبل إسرائيل وأن “المقاومة” حريصة على صون جيش البلد من غدر العدو الغاشم. وعلى هذا فإن مشروعية تلك “المقاومة” تكمن في قوة لا يمتلكها الجيش، وأن استمرارية تلك المشروعية مرتبطة دائما بهذا الضعف الذي يجب أن يكون بنيوياً للجيش اللبناني.
لن يقبل حزب الله بعادية وجود الجيش اللبناني كمؤسسة عسكرية يعوّل عليها لبنان إلا إذا أصبح هذا الجيش تابعاً لأجندات الحزب وجزءاً من استراتيجيته. ولن يهضم حزب الله أن يبقى تسليح الجيش معتمداً على ذلك الذي تضخه مخازن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وربما روسيا، ولذلك عمّل سابقا على الترويج للسلاح الإيراني والتشجيع على قبول عرض طهران السابق بتسليح الجيش اللبناني.
حين قررت حكومة بيروت برئاسة فؤاد السنيورة عام 2007 التصدي لتنظيم “فتح الإسلام” في مخيم نهر البارد شمال لبنان، خرج السيّد حسن نصرالله رافضاً ذلك من خلال مقولته الشهيرة: “نهر البارد خط أحمر”. لم يكن حزب الله يريد أن يرى مؤسسة عسكرية شرعية تابعة للحكومة اللبنانية تقوم بأي عمل عسكري هدفه الدفاع عن أخطار أمنية أو عسكرية يتعرض لها البلد، فذلك في عرف الحزب منوط به وحده، وهو ما يبرر وجود ميليشياته وما يفسّر تفوق تسلّحه.
في تلك الفترة اعتبر نصرالله أن معالجة موضوع “فتح الإسلام”، الذي قام بذبح جنود لبنانيين، “يجب أن تكون سياسية وأمنية وقضائية”. وحين خُطف الجنود اللبنانيون في منطقة عرسال من قبل “داعش” عام 2014، خرج محمد رعد رئيس الكتلة البرلمانية للحزب يرفض قيام الحكومة بأي تفاوض مع الارهابيين “صونا لهيبة الدولة”. لكن الحزب لم يتردد في التفاوض سابقا ولاحقا مع كافة جماعات الإرهاب طالما ان ذلك يؤمّن تبادلاً يفرج عن مقاتليه أو مقاتلي إيران أحياء كانوا أم أموات. في ذلك أن مقاتلي الحزب أسمى قيمة من مقاتلي الجيش اللبناني ويجوز من أجلهم ما لا يجوز من أجل غيرهم.
تمدد الجيش اللبناني صوب المناطق الجنوبية بعد حرب عام 2006. كان ذلك قراراً شجاعاً، بالمقارنة مع المحرَم الذي فرضه الحزب وطهران ودمشق على هذا الأمر. وكان ذلك أيضا شرطاً أممياً لترتيب وقف لإطلاق النار ينهي تلك الحرب المدمرة ضد لبنان. اضطر الحزب إلى ابتلاع “الكأس المر”، لكنه نجح في مناوراته السياسية والعسكرية التي يمليها واقع “فائض القوة” أن يجعل من “المقاومة” شريكاً للجيش ولا تتبع استراتيجياته. هكذا تم إخراج ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، على نحو أحال الجيش عاملاً مواكباً لا متناقضا مع منطق الميليشيات.
يعرف حزب الله قبل غيره أن تناقضه الرئيسي في نهاية المطاف سيكون مع الجيش اللبناني. يراقب الحزب بقلق حركة قيادة الجيش صوب عواصم القرار الكبرى، ويتأمل بوجل هبوط طائرات الشحن الأميركية في مطار رياق العسكري داخل منطقة البقاع اللبناني المفترض أنها جزء من مناطق يهيمن عليها الحزب، وهي تحمل مددا لا يكل للجيش اللبناني. وعلى الرغم من امتلاك الحزب نفوذاً داخل الجيش، فإن للجيش عقيدة عسكرية تتبناها الجيوش النظامية في العالم والتي لا تستقيم مع عقائد الجماعات العسكرية ومنطقها الميليشياوي وهي تذهب إلى الصدام معها عاجلا أم آجلا.
والحقيقة أن حزب الله لا يقلق من حرب تخوضها ضده إسرائيل، فتلك مناسبة أخرى تحمل الماء إلى طواحينه وتمنح وجوده الشاذ شرعية محلية ومبرر بقاء. وأيا تكن نتائج أي حرب تشنها إسرائيل ضد الحزب، على ما يردد جنرالات تل أبيب هذه الأيام، فإن الأمر سيجعل الحزب طرفاً أساسيا على طاولة أية تسويات إقليمية كبرى غداة تلك الحرب. ولا يهم ما ستنتهي إليه تلك الحرب من تدمير لبنى الحزب وبنى لبنان برمته، فذلك سيدرج دائما في حساب أرباح الحزب وانتصاراته. وربما أن الحزب نفسه الذي ما برحت تحرجه حججه التي قادته للقتال في سوريا وتضغط عليه أسئلة بيئته الحاضنة حول نجاعة المقتلة التي تلتهم الشبان الشيعة هناك، بات يحتاج إلى صدام كبير مع العدو الأصيل يخرجه من معصية قتال أعداء مستحدثين.
على أن الحزب، الذي يحرّك آلافا من المقاتلين اللبنانيين ويشرف على توجيه وتدريب وقيادة مقاتلين شيعة يفدون من باكستان والعراق وأفغانستان، بات يحتاج إلى حروب دائمة يحرّك على أساسها قواه العسكرية. فالحزب ليس لديه أي مشروع حقيقي للانخراط في مشروع الدولة بما يتطلبه ذلك من كفاءات ومواهب تسخر في مجالات التنمية والنمو والتخطيط الطويل الأمد. لا يملك الحزب ذلك وهو لم ينشأ من أجل ذلك، وبالتالي فإن حاجته للحروب تتسق مع معنى وجوده وديمومة الحاجة لخدماته، لا سيما داخل نظام الولي الفقيه في طهران.
أن يتعاظم شأن الجيش اللبناني فذلك نذير شؤم على مستقبل حزب الله في لبنان. عملت منابر الحزب الإعلامية ودوائرها الرديفة على تعظيم منجزات حزب الله في معركة جرود عرسال ليكتشف اللبنانيون بعدها أن الأمر لا يعدو كونه مسرحية تم ترتيبها في اتفاقات سابقة بين الحزب وتنظيم النصرة أولا ثم مع تنظيم داعش لاحقاً. وحين خاض الجيش اللبناني معركة تحرير جرود بعلبك ورأس العين أكثر نصرالله من إطلالاته، على نحو مبالغ به، لتكرار الإشادة بالانتصارات التي تحققها قواته، محاولاً تهميش الدور الكبير الذي لعبه الجيش اللبناني لتحرير المنطقة من إرهاب داعش.
وأيا يكن تقييم الاتفاق الذي أبرمه الحزب مع تنظيم داعش وقضى بإخلاء مئات المسلحين من التنظيم صوب شرق سوريا على الحدود مع أنبار العراق، وأيا تكن مآلات السجال الذي انفجر في بيروت وبغداد كما من خلال طائرات التحالف الدولي حول مضمون وماكيافيلية هذا الاتفاق، فإن الحزب سرق النصر النظيف للجيش اللبناني وأعاد وضع ذلك الجيش داخل مربعات لا تحيد عن أجندة الحزب وخطط رعاته. فالمطلوب في وعي اللبنانيين جميعا، لا سيما أولئك داخل “بيئة المقاومة” أن لا يتجاوز الجيش اللبناني الخطوط التي ترسمها تلك “المقاومة”، وتأكيد أن الجيش ليس أصلا في متن الجمهورية اللبنانية بل فرع داخل جمهورية حزب الله.
يخبرنا العماد ميشال سليمان قبل أيام، وهو رئيس الجمهورية السابق وقائد الجيش اللبناني قبل ذلك، أنه لو لم يتم التوصل إلى اتفاق الدوحة بعد هجوم حزب الله الشهير في 7 مايو 2008، لكان ينوي مهاجمة قوات الحزب التي احتلت بيروت. وبغض النظر عن ظرفية ذلك التصريح وتوقيته داخل السجال السياسي اللبناني الحالي، فإن رئيس الجمهورية آنذاك كان ينوي توجيه أوامر إلى الجيش اللبناني لتخليص البلد من فتنة فجرتها ميليشيات متمردة على سلطة الدولة. هذا تماما ما يخشاه حزب الله من هذا الجيش الذي يكبر عدّة وعدداً وتتعاظم مكانته في قلوب اللبنانيين.
ميدل ايست أونلاين