وجدت القيادة الفلسطينية نفسها في خندق واحد مع الإسرائيليين: خندق المفاجأة.
أربك “حراك القدس” إذا جاز التعبير، حالة المرواحة والجماد التي وسمت المسألة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة. بدا في المشهدين العربي والدولي منذ اعتداءات 11 سبتمبر الشهيرة أن فلسطين لم تعد أولوية في سلم الهموم، وأن قضايا أخرى أزاحت “قضية العرب الأولى” وأبعدتها إلى هوامش الفعل والحدث.
واستحقاق الأقصى الذي شهدته المدينة لم يكن مفاجأة لإسرائيل والعالم أجمع، بل ربما كان مفاجأة للفلسطينيين أنفسهم الذين استغرقوا كثيراً، لا سيما منذ انشقاق غزة والضفة الغربية، في الخوض بما هو بيتي متعلّق بإدارة الصراع بين حركتي حماس وفتح من جهة، ثم بما هو كيدي في التصدّع الذي أصاب البيت الفتحاوي، ثم بما هو معيشي مرتبط بأزمة تمويل تعاني منها سلطة رام الله كما سلطة غزة، بما أسقط أي عناوين تتعلق بالصراع الأصلي ضد المحتل.
كان واضحاً أن حراكا عفوياً انفعاليا يقوم به المقدسيون من خارج الأطر التنظيمية وبعيداً عن أجندات الفصائل الكبرى، قد استفز قيادة فتح والسلطة الفلسطينية كما قيادة حماس في قطاع غزة. ولا تعكس المواقف المتعجّلة في دعم انتفاضة أهل القدس أو تلك التي يرشح منها ضيق وتبرّم من حرج داهم، إلا جانباً من عجز الأعمدة المفصلية للعمل السياسي الفلسطيني، في شرعياته ومعارضاته، عن الالتحاق بظاهرة أتت من خارج أي حسابات.
قد يبدو سرياليا أن قيادة حماس وقيادة السلطة الفلسطينية وقيادة إسرائيل أفاقت داخل خندق واحد في مواجهة حدث غاب عن أدبيات ويوميات التعايش بين مُحتل وإحتلال. بدا الجانب الفلسطيني في قواعد عمله الرسمية الحزبية المؤسساتية مستسلماً لقدر تقرره إسرائيل للتصدي لتفصيل لا يدخل ضمن ورشة حماس في تفاهمها مع القيادي الفتحاوي محمد دحلان ولا ينخرط ضمن خطط الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقاربة قضية شعبه داخل الإطار الذي تتحرك ضمنه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
يكشف حراك المقدسيين عن حنكة بيولوجية متطهرة من حرفية فتح وحماس، ومتخلصة من تجربة القيادة الفلسطينية في التعامل مع إسرائيل سلما أم حربا. أتى ردّ الفعل العام متصدياً لفعل محدد، وجاء الحراك يمثل إجماعاً على صيانة أسلوب عيش وتاريخ من التقاليد المرتبطة بعلاقة المدينة مع المسجد الأقصى. لم يكن الحراك دينيا، وإن اتخذ من الصلاة خارج جدران المسجد وسيلة أعتراض شارك فيها مسيحيون. ولم يرفع المقدسيون أي شعارات فئوية حزبية أو حتى سياسية تتجاوز حدود المطالب المتعلقة بالعودة إلى استرجاع حقهم في العبور إلى مسجد المدينة الشهير.
على أن اضطرار إسرائيل للاستجابة لمطالب المقدسيين يستدعي تأملاً مستفيضا للحدث وتحليلا معمقاً للهواجس الإسرائيلية التي أعاد إحياؤها حراك المقدسيين على أبواب الأقصى.
لا يحمل الحدث أي ارتباط له بأي ظاهرة أخرى في العالميْن العربي والإسلامي، وليس متأثراً بأي “ربيع”، سواء أكان ليبراليا أو إسلاميا، على ما راج في المنطقة منذ عام 2011.
جاء “ربيع” العرب ليدفع بالقضية الفلسطينية إلى قاع الأولويات عند العرب، ولم يُرفع لواء فلسطين في أي تحرّك جماهيري جرى في مدن العرب إلا من قبيل المزايدة ورفع العتب. وجاء “ربيع” القدس متكئا على سلمية حضارية لا تشبه المشهد الجاري في ليبيا وسوريا واليمن، كما لا تمت بصلة لتلك الحروب المندلعة لمحاربة الإرهاب. ثم أن المقدسيين لم يدّعوا حملهم لطموحات تتجاوز التوازنات الدولية ولم يعتبوا على صمت الخارج ولم يستدعوه إليهم رغم اندفاعه بعد ذلك باتجاههم، بل اكتفوا بأجسادهم وحناجرهم وعنادهم أسلحة وحيدة غير مستوردة ذات صناعة بيتية لا تتعدى حدود القدس.
لا يمكن للعالم إلا أن يعترف بأن فلسطين ما زالت القضية الساخنة الأبرز في العالم أجمع. ولا تكمن أهمية فلسطين الدائمة من مظلومية فلسطينييها فقط، بل من يهودية الطرف الآخر للصراع. وعلى هذا فإن ما مثّله حراك المقدسيين من إرباك لدى القيادة الإسرائيلية ومن ظهور لافت لقدرة الناس على الدفاع عما اعتُبر منسيا، يعيد تصويب عقارب الساعة على مفارق جديدة لم يكن النظام الدولي الراهن يلحظها.
بدا أن بنيامين نتنياهو الذي ران له الوضع الفلسطيني في السنوات المنصرمة وأمعن في التعامل معه بالعنف والإهمال وفق أهوائه، يتصرّف هذه المرة تبعاً لمزاج قلق جديد. لم يخضع الرجل لنداءات دولية من هنا ولم يستجب لضغوط أخرى من هناك، بل كان مصغياً باهتمام لتقارير دفعت بها أجهزة الأمن الإسرائيلية تحذّر من أن أمر القدس جدي قد ينذر بانتفاضة عارمة قد تشمل كل الفلسطينيين على ضفتي الخط الأخضر.
قد يملك الطرف الإسرائيلي معطيات لا يملكها الفلسطينيون أنفسهم، كما قد يعرف الإسرائيليون قبل غيرهم دقة المرحلة التي تتم داخلها جراحات كبرى في المنطقة، ولا تتحمل خروج الوضع عن السيطرة، خصوصا أنه قد يخرج عن سيطرة الفصائل الفلسطينية التي تتقن إسرائيل التعامل معها. ولا شك أن تزامن حراك القدس مع الأنباء التي تتحدث عن تقهقر الجماعات الإرهابية، من داعش إلى أقرانه، يعيد تثبيت حقيقة أن “فلسطين القضية” بعيدة عن سياق جماعات الجهاد وليست من حوافز انبعاثها، وأن القضاء على ظواهر الإرهاب المرتجّلة وفق تقليعات تترى بين الفينة والأخرى، لن يئد قضية قد يخيل لمن يريد التخيل أنها آيلة إلى اندثار.
في هجوم القوات الإسرائيلية على المحتفلين بـ “تحرير” الأقصى، وفي استقبال نتنياهو للإسرائيلي الذي ارتكب جريمة عمّان بصفته بطلا يجوز تكريمه، ما يكشف عن وجه صبياني في السلوك الإسرائيلي يقارب سلوك العصابات وقادتها. وفيما يحج الفلسطينيون قيادة وسفراء وشخصيات ومنظمات مدنية للمرافعة في العواصم دفاعاً عن قضيتهم، فإن ما أنجزه المقدسيون خلال أيام يفوق ما يجهد الفلسطينيون لتحقيقه منذ سنين. وربما هذا تماما ما أدركه الإسرائيليون جيدا فراحوا يمعنون في التعبير عن غيظ لا يليق بدولة تسوّق نفسها وحيدة في ديمقراطيتها في هذا الشرق.
قد يبدو أن رد فعل المؤسسة الملكية الأردنية على جريمة السفارة الإسرائيلية في عمّان قد قرأ مفرداته من مجريات الأيام المقدسية الأخيرة. أتت الرواية الملكية لتنسف تلك التي صدرت عن مصادر حكومية أردنية. تحدثت الرواية الملكية عن “اعتداء وجريمة”، فيما جهدت الرواية الحكومية على قوننة الحدث وتبسيطه واعتباره “شجارا” أدى إلى قتل. فإذا ما كان أمر الجريمة العٓمّانية حدثا يدرج ضمن سلسلة احتكاكات جرت في السابق بين إسرائيليين وأردنيين منذ “وادي عربة”، فإن الأردن المطل على القدس رفع من مستوى الاحتكاك إلى ما هو سياسي يطال البلد وملكها مع ما يتطلبه ذلك من إجراءات فوق العادة تتسق مع حدث مقدسي فوق العادة.
يكفي حماية لحراك المقدسيين ألا يُحمّل أكثر من طاقته وألا يُستشرف فيه أبعد من حدوده، فيكفيه أنه بأدواته البسيطة أعاد تعويم ما كان منفياً غارقاً في وحول لا صلة لفلسطين بها.
نقلاعن میدل ایست