هو سر أصيلة أن يمسك أهل الفكر بتراب من براكين، يبوح بعقلانيات الحرب وجنون السلم، لكن الجدل يبقى عيداً ينتظر موسم أصيلة المقبل ذلك الذي يشعل شمعته الأربعين.
تقتربُ أصيلة من موسمها الثقافي الـ40. في العام المقبل تنهي المدينة الشمالية المغربية أربعة عقود توافد خلالها، عاماً بعد عام، شخوص وأسماء وظواهر من أطراف العالم الأربعة، اهتزت لهم المدينة وهزّتهم تلك المدينة.
تكاد حجارة أصيلة وهي تحاكي طنجة، الشهيرة والجارة، تفتخر برياح لامستها، وما برحت تأتيها من بعيد، مواكبة لقوافل من أهل الأدب والشعر والفلسفة والصحافة والفنون.
كاد هبوط أهل الثقافة وحجيج رجال السياسة على مدى تلك العقود أن يحوّل أصيلة إلى كعبة فكر وجدل وحوار. يهمس أحد رواد أصيلة القدماء كم أن عصبية الأفكار تتخلص من يقينيتها حين تهتدي إلى حكاية المدينة العتيقة، وحين تهتدي أقدام أصحابها إلى زواريبها.
أسدلت أصيلة منذ أيام موسمها الثقافي التاسع والثلاثين. لا يبدو أن المدينة وأهلها يحتاجون لشرح مضامين تلك المواسم. تتكلم الجدران لغة جدران لا يوجد مثيلها في العالم. تمتهن تلك الجدران عذريتها كل عام، تمحو ضجيج عام على محيّاها وتترك لتشكيليي الشرق والغرب ليعيدوا العبث بدلالها.
لا يدرك الناظر من التصق بمن. أهي الجدران التي امتصت ألوان الفنانين وأخضعتهم لنزواتها، أم أن نزق التشكيليين أيقظ الحجارة من سكينتها وأعاد تذكيرها أن أصيلة باتت مدينة هذا العالم برمّته، حتى لو كانت أبجدية أهلها تنطق المغرب في روحه وعبق أصواته؟
في أصيلة يهمسون لك بفخر وفرح أنها مدينة محمد بن عيسى. هناك من سيتبرّع بإخبارك أن الرجل ابن المدينة، وحين عاد بعد هجرة متقطعة، تبدلت في ملامحه وطباعه سمات، لكن حُبه للمدينة تحوّل إلى ولع، بعضهم قال إنه جنون.
كان من بديهيات القصة أن المدينة التي تعبت وهزل متنها قبل أكثر من أربعة عقود، كانت تحتاج إلى من يأتي إليها بشروط البقاء: ماء وكهرباء وتنظيم مُدني وإدارة لشؤون السكن والعيش والتعايش. لم تكن المدينة تملك أن تطمح إلى ما هو أكثر من ذلك. كان أهل المدينة التي ترتاح على شواطئها مياه كثيرة ويمر بالقرب من رمالها وبحرها كثير من قوافل التجارة البحرية، يعتبرون أن بيوتهم بعيدة عن هذا العالم وأن هذا العالم لا يسمع همسها.
لم يكن ترياق بن عيسى جريئا كان فيه كثير من عدم الواقعية وجرعات عالية من السريالية. يروي قدماء المدينة كيف أتى الرجل بعـد 23 عاما مـن الهجرة بأناس غـرباء لا يشبهون ناس أصيلة ولا يتكلمون لغتها.
بدا للرجل الذي تنقّل من مهام دبلوماسية لافتة إلى أخرى وزارية فاعلة، أن فنانين تشكيليين، وليس فقط عمال البنى التحتية التقليديين، هم الذين سينفخون في أصيلة روحا وحيوية ودما جديدا يُفترض أن يدهش أهل المدينة الأصليين، قبل أن تكشف أصيلة عما يمكنه إدهاش الآخرين.
لا يعرف أهل أصيلة كيـف تقدّمت مدينتهم تقتحم البحر وهو الذي ما برح يضرب شواطئهم ببلادة وعناد. لا شك أن أهل المدينة أعادوا اكتشاف “أصيلتهم” في عيون تلك المخلوقات الغريبة التي تتأبط فنوناً وحروفا وأفكارا وألوانا وأنغاما كثيرة.
تكشف “المواسم” المتتالية عن لائحة طويلة من الشخصيات الشهيرة، العربية والأجنبية، التي زارت أصيلة وأقامت في ربوعها. غيب الموت بعضا من تلك الأسماء وهي مدفونة لا شك في إحدى حكايات المدينة وإن كانت رفاتها مخلوطة في تراب بعيد.
ورغم انتهاء روايات بعض الشخوص واندثار حكاياتهم، فإن المدينة التي تنبض بالحياة ولا تعرف معنى للموت، تستمر في رسم قصص أخرى عن هذا العالم الذي ازداد صخبه وتضاعفت قسوته.
ولحكمة مغربية ما، نجا المغرب من أنواء هذا “الربيع” الذي لا يرحل منذ 6 سنوات.
ولحكمة في أصيلة، بقي محمد بن عيسى يستدعي العالم نحو مدينته دون خشية من أن يحمل القادمون للمدينة أمراض ذلك “الربيع” في جنونه وعبثه.
داخل جدران قاعات أصيلة تقاذف المثقفون على مدى العقود الغابرة آراء وأفكاراً وأطروحات. وحين يتخيّل الجمع انتهاء القول يفتح بن عيسى، عمدة المدينة دارته التي تقع داخل أسوار المدينة العتيقة، فيكمل الغرباء داخله ما نسوا الإسهاب به داخل فضاء المؤتمرات والندوات.
ولئن احتلت إشكاليات الفكر الإسلامي عناوين النقاشات وجدول أعمال الندوات هذا العام، فذلك أن لهذا الإسلام مكانا ومكانة في المغرب بما يتيح تناولا جريئا لما قد يعتبر محرماً لا يجوز الاقتراب منه. الإسلام حاضر في حاضرنا يحتل الفضاء العام فيطغى في تاريخه وفقهه وجدل السياسية الراهنة حوله، على نحو بات ضروريا أن نجادل في أمر ذلك.
كانت المدينة هذا العام تزهو بجدرانها وأهلها وسياحها، فيما كانت القاعات الداخلية تضج بصخب المساجلين. بدا أن الأفكار ما زالت مرتبكة خجولة بها كثير من الحيرة والتردد. لم يحمل أحد ما هو يقين، بدا أن الخطب تحمل شكوكا وكثيرا من الأسئلة، وكأن أصيلة في سكينتها وهدوء طباعها تعري عقولنا وتكشف عجزنا عن الاهتداء إلى بوابات الخلاص.
لم يعد “الإسلام هو الحل” في أصيلة. باتت تلك الأطروحة متقادمة تنتمي إلى زمن غابر رغم حداثة سقوطها. لا أحد يحمل في جعبته معادلة تستشرف ما ينتظر المنطقة بعد مواسم “القاعدة” و“داعش”. نعم الكل في حوارات أصيلة، ودون أن يقصدوا وربما، وكأن الأمر بات عين اليقين، تحدث عن “ما بعد” داعش، ولسان حالهم يذهب إلى أكثر من ذلك: ما بعد الإسلام السياسي.
أصيلة التي تتنفس الإسلام في وجوه أهلها تجرأت ولامست حقائق أخرى. لامست ولم تمعن في اقتحام الفضاءات الفكرية إلى ما هو أعمق، ليس ضعفا أو وجلاً، بل لأن لا أحد من ضيوف هذه الندوات ادعى إمساكه بحقيقة جديدة. لا تريد المدينة أكثر من تلك الجرأة، ولا يبحث محمد بن عيسى عن سبق فلكلوري متعجّل يحصده من تلاقح أفكار تمر بالمدينة لأسابيع ترحل مع أصحابها.
تنتهي الندوات، تقفل القاعات، وأصحاب القول يكملون داخل شوارع أصيلة الضيقة ومقاهيها الرحبة التي تحاكي البحر ما فاتهم من قول.
يختلط الجدل بقصة زيليس التي سماها العرب أصيلة. في صدى حجارتها أصوات فينيقية قديمة وعبق عرب وبربر وإيقاعات برتغاليين. تتحدث أصيلة عن سان سيباستيان ذلك القائد البرتغالي الذي صرعته معاركها. هنا في هذا البرج البرتغالي وسط المدينة العتيقة نام الرجل ليلته الأخيرة. غير أن أقواما آخرين أتوا المدينة أو رسوا زمنا مديدا في تاريخها ثم رحلوا.
كيف للفكرة المطلقة أن تبقى مطلقة حين تترجل داخل فضاء يضج فيه الكثير من التاريخ.
يكاد القائل أن يقول من أنا داخل هذه الدنيا كي أقول ما أقول؟ ألم يأت قبلي من قال قولا قبل أن يندثر قوله ويغيب خلف جدران ساكنة ثابتة تلونها أمزجة وأنفاس تتخصب من رسوم يلقي بها هذا العام فنانون من اليابان والأردن والعراق وإسبانيا والبحرين والبرتغال وأقوام آخرين من منافي بعيدة؟
هو سر أصيلة أن يمسك أهل الفكر بتراب من براكين، يبوح بعقلانيات الحرب وجنون السلم، لكن الجدل يبقى عيداً ينتظر موسم أصيلة المقبل ذلك الذي يشعل شمعته الأربعين.
نقلا عن العرب