تتبع باحثان جادان، على مدار عشر سنوات، في كتاب جديد تحت عنوان “المنفى”، تأثير هجمات 11 سبتمبر الكبير وحالة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في الوقت الذي نفذت فيه الهجمات، فقد كان مختبئاً بكهف في أفغانستان، ولم يكن بمقدوره التقاط إشارة التلفزيون عبر الأقمار الصناعية، ولم يكن أمامه سوى متابعة ما يجري عبر المذياع.
فبعد اعتقال العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر خالد شيخ محمد بمدينة راولبندي الباكستانية في 28 فبراير 2003، شعر أسامة بن لادن بأن الوصول إليه بات أسهل. وخشية إجبار خالد شيخ محمد على الإفصاح عن مكان اختباء بن لادن، قام أحد أعضاء تنظيم القاعدة المقربين من زعيمها، وهو كويتي الجنسية، بنقل بن لادن إلى منزل غير مأهول يملكه والده بالقرب من مدينة كوهات، شمال غربي باكستان. لم يكن الحل مرضياً، وفي عام 2004، وحرصاً على حماية زعيمه، وفّر التنظيم بيتاً أفضل بني خصيصا له بمدينة أبوت آباد العسكرية، وبالفعل انتقل إليه بن لادن برفقة زوجاته وأطفاله.
لكن السؤال الذي أثير بعد الغارة التي شنتها الولايات المتحدة على أبوت آباد يتعلق بأهم رجلين في باكستان، الجنرال أشفق كياني، رئيس الأركان العامة، والجنرال أحمد شجاع باشا، مدير الاستخبارات العامة، فهل كانا على علم باختباء بن لادن في أفغانستان؟ الكثيرون في واشنطن يدركون أن باكستان لم تكن حليفاً غير موثوق فيه فحسب، بل هي حليف مخادع أيضاً. بعد أن توفرت الأدلة الدامغة على أن باكستان وفرت الملاذ لمهندس هجمات 11 سبتمبر تعني بكل تأكيد أنها دولة راعية للإرهاب، وكان هناك من الأسباب ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الباكستانيين كانوا على علم بوجودهما لسببين: أولا، كان من الصعب تصديق أن بن لادن كان يمكنه العيش على بعد ميلين من الأكاديمية العسكرية الباكستانية من دون معرفة الجيش بوجوده. ثانياً، لباكستان سجل حافل في حماية ورعاية المتطرفين وإنكار وجودهم على أرضها.
الحرس الثوري والقاعدة
كان من ضمن المصادر الجديدة التي استعان بها مؤلفا كتاب “المنفى”، سكوت كلارك وأدريان ليفي، ونشرت “الغارديان” مقتطفات منه السبت ونقلت عنها “الشرق الأوسط”، داعية موريتاني يدعى محفوظ ولد الوالد (أبو حفص الموريتاني). فعلى مدى أكثر من عشر سنوات، شغل محفوظ منصب رئيس لجنة الشريعة بالتنظيم، وكان عمله ينصبّ على تشريع سياسات وممارسات التنظيم من الناحية الدينية، وكان من أول من علموا بهجمات 11 سبتمبر قبل تنفيذها. كانت معارضته قوية لما أطلق عليه عناصر القاعدة “عملية الطائرات”. ولأنه يدرك أن موقفه مع ابن لادن وحده لن يجعله بمنأى من الغضب الأميركي، وذلك شأن غيره ممن هربوا من أفغانستان عقب اعتداءات 11 سبتمبر، احتاج محفوظ إلى مكان يأوي إليه. ولإدراكه تباين الاتجاهات السياسية داخل إيران، تحاشى محفوظ التواصل مع الحكومة الإيرانية وتعامل مع “الحرس الثوري” مباشرة. ومقابل وعد بأن تكون إيران بمنأى من هجمات القاعدة، أعطت إيران إشارات بالموافقة، وفي مارس 2002، شهدت طهران تدفقا كبيرا وبوتيرة منتظمة لكبار قادة القاعدة ومن أقارب بن لادن.
غلاف كتاب المنفى
وكشف استقبال طهران لقادة “القاعدة” كم العداء وانعدام الثقة بين الفصائل الإيرانية في الداخل. فمثلاً عندما راقب مسؤولون بوزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية المكالمات الهاتفية بين قادة القاعدة في إيران وأقربائهم في باكستان وأفغانستان، شرعت أجهزة الأمن الإيرانية فورا في إلقاء القبض عليهم، وترحيل بعض أعضاء التنظيم إلى بلدانهم. ولشعورها بالامتعاض مما حدث، طالب “الحرس الثوري” أعضاء القاعدة بعدم استخدام هواتفهم.
وفي النهاية، وصل المسؤولون الإيرانيون إلى اتفاق وسط لتوحيد مواقفهم تجاه قادة القاعدة في بلادهم، لكن تظل طريقة الاتفاق وتفاصيله موضع جدل.
فمن جانبها، قالت الولايات المتحدة إن إيران توفر الملاذ للإرهابيين، ولتتحاشى هذا التوصيف، فضلت إيران أن تعلن أنها “اعتقلتهم”. فكبار قادة التنظيم أقاموا بأحد المباني التابعة لـ”فيلق القدس”، شمال طهران، في حين أقام بعض أقارب بن لادن في جناح مستقل بالمبنى نفسه، ومجموعة أخرى أقامت في بيوت آمنة، بينما انتهى الحال بمجموعة أخرى في أحد السجون السيئة، ما دفعهم إلى الدخول في إضراب عن الطعام. لكن أياً من هؤلاء كان مسموح له بمغادرة إيران باستثناء حالة واحدة، وهي محاربة القوات الأميركية في العراق.
ورقة مساومة
أدركت إيران أن أعضاء القاعدة المقيمين على أرضها ليسوا مصدرا للمعلومات الاستخباراتية فحسب، بل ورقة للمساومة أيضاً. لكن بسبب عدم وجود رغبة متبادلة بين الحرس الثوري الإيراني ونائب الرئيس الأميركي في ذلك الحين ديك تشيني في التفاوض، لم يكن لهذه الصفقة أن تتم. بيد أن الوضع تغير بعد ذلك بفترة قصيرة، تحديداً بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003؛ فنظراً لرغبتها في معرفة نشاط القاعدة في العراق، قام المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية راين كروكر، بصحبة زلماي خليل زادة، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي لأفغانستان، بمحاولة التقارب مع إيران مرة أخرى. غير أن إيران بذلت جهدا أكبر في هذه المرة تمثل في صفقة مقايضة طالبت بموجبها الولايات المتحدة بتسليم “مجاهدي خلق” المناوئة للنظام الإيراني والمقيمة في العراق مقابل تسليم طهران مجلس شورى “القاعدة” وعائلة بن لادن إلى الولايات المتحدة. لكن في الحقيقة، لم يكن هناك دليل على مدى كراهية واشنطن لإيران أكبر من قرارها رفض تلك الصفقة.
ربما كانت بعض التفاصيل التي وردت في كتاب “المنفى” موضع جدل، لكن بعضها ثبت خطأه بكل تأكيد. على سبيل المثال، فرواية هرب حمزة، ابن أسامة بن لادن، من باكستان بعد الغارة التي شنتها القوات الأميركية على أبوت آباد، ربما تحتاج إلى مراجعة في ظل المعلومات الجديدة.
فالكاتبان سكوت كلارك وأدريان ليفي ذكرا أن القاعدة استطاعت توفير مكان له على طائرة متوجهة إلى قطر، في حين ذكر آخرون أن الاستخبارات الباكستانية هي من تولت تلك المهمة. لكن ذلك لا يقلل من إنجاز الكاتبين اللذين تمكنا من استنطاق عناصر القاعدة السابقين وأفراد عائلة بن لادن الذين طالما التزموا الصمت، ناهيك عن اعترافات كبار المسؤولين في الجيش الباكستاني الذين أدلوا بأفضل شهادات حتى الآن بشأن ما حدث للقاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر.
نقلاعن العربیه