من المعروف، تاريخيا، أن المواطن المصري متدين باعتدال، مسلما ومسيحيا، ورافض، بقوة وشجاعة ووعي واتزان، تسلط أيٍ كان، شخصا أو حزبا أو جماعة، باسم الدين.
وآخر أخبار الشعب الذي طرد، هو وجيشه الوطني، جماعة الإخوان المسلمين شر طردة في 30 يوينو، أنه ألحق مؤخرا هزيمة رائعة أخرى بالسلفيين، ورماهم وراء ظهره، وبالطرق المشروعة، وعبر صناديق الاقتراع، وفي انتخابات شهد العالم بأنها كانت نزيهة، دون تزوير، ولا شراء ناخبين بالمال، ولا بالوظائف وقطع الأراضي، أو الأوامر العسكرية الصارمة، أو التهديد بالقتل والاعتقال، أو خطب الأئمة المضللين المخرفين.
فقد تناقلت الأنباء أن “حزب النور السلفي مني بخسارة فادحة للمرة الثانية في الجولة الأولى بالمرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية، وفشل في تحقيق أي مكاسب سواء على مستوى المنافسة على المقاعد الفردية أو القوائم الحزبية”. وقد “ترشح 181 من أعضاء الحزب في 13 محافظة، ولم يحقق أي منهم أي نتائج إيجابية”.
ويجمع المراقبون والمحللون على أن خسارة حزب النور السلفي كانت متوقعة لسببين؛
الأول لأن الشعب المصري يرفض خلط الدين بالسياسة، خصوصا بعد أن جرب الإخوان المسلمين في السلطة سنة كاملة، فلم يطق صبرا على نفاقهم ودمويتهم ودكتاتوريتهم وجهلهم بأمور السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام، وعمالتهم للأجنبي.
والثاني لأن توفير الأجواء السياسية النظيفة للمواطن، ومنحه حرية الاختيار الحر، وإجراء الانتخابات دون قهر وقمع وتزوير كفيل وحده بإحقاق الحق، وترسيخ سلطة العقل والعدل والنزاهة والكفاءة والقانون.
إلا أن روعة هذا الخبر المنعش الجميل أثارت فينا، نحن العراقيين، عواصف من الحزن والأسى والندم لا حدود لها. فقد جعلتنا نتفحص أحوالنا في ما أصابنا من كوارث ومصائب ومآزق، من أول سقوط نظام صدام حسين وإلى اليوم، لنكتشف أن من يتحمل جريرة كل هذا الخراب والفساد والخوف، وكل هذه الإهانات لهيبة الدولة وسيادتها وكرامة أهلها، وموت المئات والألوف من مواطنيها الأبرياء، وخواء خزينتها، تحت سلطة الميليشيات والمفخخات والعصي والكواتم، هو الناخب العراقي نفسه الذي اختار حكامه الذين يتظاهر اليوم ضد حكمهم، وهم لا يسمعون ولا يعقلون.
يتشدقون بالديمقراطية وهم ألد أعدائها. فبالتجربة، وعلى مدى ثلاث عشرة سنة، تأكد لنا أن كل ما يفهمونه عن السياسة هو أنها فن الغش والغدر والخداع والاختلاس والقتل والاغتيال، فلم يسلم من أذاهم حتى إخوتهم المجاهدون في “التحالف الوطني” المزعوم.
ألم يبلغكم نبأ المشاجرة بالمسدسات بين اثنين من أقرب المقربين إلى زعيميْ أهم كتلتين سياسيتين حاكمتين، هما كتلة (المواطن) لعمار الحكيم، وكتلة (دولة القانون) لنوري المالكي؟ فقد تحاور النائب كاظم الصيادي وأخوه المتحدث باسم المجلس الأعلى بليغ أبو كلل بالرصاص، في مقر قناة فضائية ببغداد.
ويقول أبو كلل إن “النائب الصيادي بدأ بالتهجم علينا لفظيا، ثم دعا أفراد حمايته، وبدأ مساعدتهم بمحاولة طردنا خارج القناة”. و”عندما لم يتمكنوا قاموا بإطلاق النار من مسدساتهم الشخصية بشكل مباشر علي”. “إنها محاولة خطف وشروع مباشر بالقتل”.
هذه عينة من قادة الوطن العراقي الديمقراطي الجديد. حمقى وقصارُ نظر. أضاعوا المشيتين. خسروا الدنيا، وخسروا الدين. فلا أرضوا شعبهم، ولا حتى طائفتهم ذاتها، ولا فازوا برضا الله ورسوله والمؤمنين.
كذابون معروفون من أيام هروبهم الأعظم من صدام حسين ومخابراته إلى مقاهي طهران والسيدة زينب في سوريا ولندن وبيروت، وتسكعهم على أبواب المخابرات الإيرانية والسورية والأميركية والبريطانية والسعودية والإماراتية والقطرية، دون حياء.
وطيلة سنوات جوعهم في المنافي كانوا يبكون العدل الضائع في عراق صدام حسين، ويشكون من طائفيته وفساد ولديْه وإخوته وأبناء عشيرته، ويُقسمون على أنهم، إنْ هم ورثوه، سيحكمون بالعدل والنزاهة، ويساوون بين الناس، ويحترمون كرامة المواطن وحريته، ويحافظون على وحدة الوطن، ويدافعون عن سيادته واستقلاله حتى النفس الأخير.
لكنهم فور أن هبطوا من طائرات الأميركان، أو من دبابات جارتنا العزيزة إيران، تراكضوا خفافا وثقالا لاحتلال البنايات والقصور والمزارع والحقول، وتدافعوا، كالذئاب الجائعة، ليملأوا جيوبهم وكروشهم بالمال الحرام، وكأنهم موقنون بأن أيامهم في السلطة محدودة، وساعة الحظ لا تأتي إلا مرة واحدة.
ولكي يأمنوا غدر الزمان وشرور المؤامرات والانقلابات قرروا امتلاك الدولة واحتكارها، بقضائها وأمنها واقتصادها وجيوشها وفضائياتها، وباشروا، من أول أيامهم في السلطة، باجتثاث خصومهم بشتى أنواع التهم والقصص الملفقة جاعلين من تهمة البعث والقاعدة، ثم “داعش” هذه الأيام، سيوفهم اللامعة التي لا تخيب.
وانظروا ماذا حل بالعراق في عهدهم غير السعيد، وماذا جرت عليه ديمقراطية الحكام الذين يضعون عمائمهم على رؤوسهم أو الذين يضعونها “على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم”.
لقد كان عليهم، لو كانوا صادقين، أن يختاروا واحدا من اثنين، إما أن ينزعوا عمائمهم ويدخلوا عالم السياسة في القرن الحادي والعشرين، وينصاعوا، دون مواربة، لمفاهيم العصر الحديث وثقافاته وقوانينه، ويرضوا، لتثبيت سلطانهم، بحكم صناديق الاقتراع، وكسب أصوات الناخبين بالعمل الصالح والنزاهة ونظافة القلب واليد واللسان، وإما أن يغادروا شوارع السياسة وأزقتها وقبابها، ويعودوا إلى جوامعهم وحُسينياتهم، ويتفرغوا للصلاة والدعاء، ويتركوا السياسة لأهلها وفرسانها.
من كل هذا نصل إلى الخلاصة، وهي أن من المستحيل وجود عراقي واحد يحترم نفسه وأهله ووطنه يقبل بديمقراطية وديمقراطيين من هذا النوع.
وهنا يأتي دور السؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا الاكتشاف المرير: لماذا سكت العراقيون كل هذا السكوت على الضيم والذل والهوان، وهم العارفون بأن شُلة الـ”إخوان المسلمين الشيعة” لا تقل تخلفا وظلامية ودكتاتورية وعدوانية عن نظام “الإخوان المسلمين السنة” الذي لم يصبر عليه المصريون طويلا، واقتلعوه من حياتهم، ببساطة وسهولة وشجاعة، وعبر صناديق الاقتراع ذاتها التي سلطت علينا هؤلاء الحكام الفاشلين الفاسدين، كل هذه السنين؟
*نقلاً عن صحيفة “العرب”