ينشأ اليوم إجماع بين المراقبين والمعلّقين الغربيين على أن الوجهة التي أطلقها استفتاء «بريكسيت» البريطاني قد انتكست وتوقفت. ففضلاً عن انتصارين صغيرين في النمسا (رئاسة الجمهورية) وهولندا (الانتخابات البرلمانية)، جاء الانتصار الفرنسي الذي حققه إيمانويل ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام» كاسحاً. وبعدما كانت مارين لوبن، زعيمة «الجبهة الوطنية» العنصرية ومنافسة ماكرون على الرئاسة، لا تكفّ عن التهديد بـ«فريكسيت» (أي المعادل الفرنسي لبريكسيت البريطانية)، إذا بالفشل الصارخ يحيق بها وبحزبها وبوعدها المذكور في وقت واحد. لا بل ثمة اليوم من يرجّح أن تكون الحياة السياسية للسيدة لوبن هي نفسها مهددة بالانطواء.
وفي سبتمبر المقبل، يُتوقَّع أن تكتمل حلقات السلسلة بنصر أوروبي آخر، هو الرابع، تحرزه سيدة من نوع مختلف هي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تشكّل مع ماكرون الركيزتين السياسيتين للمشروع الأوروبي. ولم يكن بلا دلالة أن يترافق رحيل المستشار الألماني السابق هيلموت كول مع أجواء شبه احتفالية تذكّر بشيء من التمجيد بالدور الذي لعبه في إرساء البناء الأوروبي، إلى جانب الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران.
إذن، بعد أن بدا لوهلة أن «بريكسيت» تفرض الأجندة على القارة وترسم الطريق الأوروبي المجزّأ إلى المستقبل، تحولت «بريكسيت» نفسها إلى عبء على بلدها الذي يبدو اليوم شبه معزول في أوروبا، كما تبدو حكومته متورّطة، ومن موقع ضعيف، في عملية تفاوضية يُستبعد أن ترضي عموم البريطانيين. أما رئيسة الحكومة تيريزا ماي فباتت، بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، تحتل موقعاً لا تُحسد عليه إطلاقاً، خصوصاً بعد احتراق برج «غرينفل» في لندن والاحتجاجات التي أطلقها في مواجهة الإهمال الحكومي وضعف حساسية السلطة السياسية. وإذا صح تفاؤل المتفائلين بالنتائج الانتخابية الباهرة التي حققها حزب العمال البريطاني، أمكن القول إن تولي قائده جيريمي كوربين رئاسة الحكومة لم يعد مبالغة متحمسة أو خيالاً محضاً.
مع هذا، لابدّ من التأني والحذر في التوقعات السخية. فالموجة الجديدة التي طوت موجة الشعبوية والعداء لأوروبا محكومة هي الأخرى بعوامل ضعف بنيوي يصعب ألا تلحظها عين الناظر المدقق. وتقدم فرنسا وبريطانيا، هنا، حالتين نموذجيتين: صحيح أن ماكرون وحزبه عبّرا عن حالة شبابية جديدة اختارت «الوسط» والتجديد، وصحيح، في المقابل، أن النجاحات التي أحرزتها قيادة كوربن في بريطانيا تنم أيضاً عن رغبة شبابية اختارت بديلاً أكثر يسارية من ذاك الذي اختارته مثيلتها الفرنسية… ولكن المقلق في الحالتين المذكورتين، على ما بينهما من تفاوت، هو السرعة: فحزب ماكرون الذي حصد أغلبية الأصوات لم يؤسس إلا قبل أشهر معدودة. وكذلك، فلولا فضيحة المرشح الديغولي فرانسوا فيّون بسبب عمل زوجته، لربّما خرجت فرنسا بنتائج نهائية تختلف عن تلك التي سجّلتها. أما قيادة كوربين فانتقلت، بين عشية وضحاها، من طرف «لا يصلح للانتخاب» إلى طرف شديد القوّة والتأثير. حصل هذا بسبب البيان «المانيفستو» العمالي السخي في تقديماته الاجتماعية مقابل جمود «المانيفستو» الذي طرحه المحافظون وغلبة التقشف عليه.
ولأن الأمر يكاد يكون بلا مقدمات صلبة، يُرجح أن يكون صعود الموجة الجديدة- الراهنة تعبيراً عن حقيقتين متفاوتتين في آن معاً:
– من جهة، فترة سماح أطول للنخب التقليدية وغير الشعبوية، خوفاً من الآتي الغامض واتعاظاً بتجربة التسرع البريطاني كما مثلتها «بريكسيت».
– ومن جهة أخرى، امتحان أخير لهذه النخبة أو جرس إنذار يُقرع في وجهها: إمّا أن تُخرج بلدانها من الأوضاع المتردية التي ألقتها فيها، أو الاستسلام للكابوس الشعبوي المتطرف يميناً ويساراً، والتسليم به، عملاً بمبدأ «آخر الدواء الكيّ».
نقلاعن العربیه