لماذا تُستهدف فرنسا بما عُدّ “11 سبتمبر” فرنسي، وبما وّصف بأنه أعظم زلزال أمني منذ الحرب العالمية الثانية. السؤال مشروعٌ ومنطقي، إلا إذا كانت ضربات داعش في العاصمة الفرنسية هي واحدة من سلسلة قد تطالُ مدن الدول الغربية المتحالفة داخل ذلك التشكيل العسكري الدولي الذي قام لمحاربة تنظيم أبو بكر البغدادي في العراق أساساً، مع استثناءات بدأت تكثرُ لضرب التنظيم في سوريا.
الهجوم الذي تعرّضت له مكاتب صحيفة “شارلي إبدو” أوائل هذا العام (7 كانون الثاني/يناير) أقام الدنيا وحمل زعماء دول إلى شوارع باريس للتعبير عن جسامة الجريمة وجدّية الإدانة الدولية وكُبر التضامن مع فرنسا. وما بين الحدثين يجوزُ التساؤل حول خصوصية فرنسا لتكون هدفاً، على ما يبدو سهلاً، لاختراقات تنظيم داعش خارج حدود الشرق الأوسط.
في التمارين المقترحة لفهم السببية الفرنسية إبحار عبثي في الخلفية الإيديولوجية للبلد في فرادته العلمانية وموقفه من الدين (والكاثوليكية أساساً وتاريخياً)، وفي الماضي الكولونيالي في شمال أفريقيا، لا سيما في الجزائر، وفي الموقف الحديث من الحجاب، وفي الحرب التي خيضت في مالي وليبيا. لكن الأجوبة على وجاهتها تبقى افتراضية تُقرأ في فنجان ولا تعبّر بدقّة عن حوافز الفاعلين ومن يقف خلفهم.
وبعيداً عما هو تنجيمٌ لا يزيده الحبر المُسال إلا غموضاً وخيالاً، تكشفُ المواقف المفرج عنها عبر مواقع التواصل الإجتماعي العربية عن حضور التاريخ بقوة في تبرير الموجات الإرهابية عامة، وضد فرنسا خاصة. استدعت المواقع الإجتماعية صوراً تُظهر الانتهاكات الصارخة التي مارسها جنود الإحتلال الفرنسي ضد الجزائريين. في قساوة تلك الصور، على ندرتها في ذلك الزمن، مقارنةٌ بجرائم داعش من جهة، وتأثيمٌ للطرف الفرنسي الذي تُظهره جرائم باريس الأخيرة بريئاً. وبغضّ النظر عن نقاش مسؤولية فرنسا تاريخياً في المنطقة، فإن حالة التبرير والشماتة أحياناً تعكسُ تبسيطاً في فهم الواقعة، وسخونة في ما يفترض أنه تاريخ في الذاكرة العامة لشعوب برمتها.
في المنطق أن جرائم داعش ليست مقترفة رداً على جرائم اقترفها أجداد فرنسيي اليوم في بلد ما، في زمن ما. ومع ذلك فإن من أحفاد المستعمَرين (بفتح الميم) من يحملُ حقداً بنيوياً منهجياً عبثياً ضد فرنسا اليوم (رغم اختيار أبائه وأجداده لها بلداً للعيش والاستقرار). ولا عجب أن جُلّ من قاموا بالاعتداءات الإرهابية (إذا لم يكن جميعهم) في فرنسا خلال العقود الأخيرة، هم إما مهاجرون من منطقة شمال أفريقيا، أو فرنسيون (بالمولد والتجنيس) يتحدرون من تلك البلدان. في ذلك أنه تمّ وأدُ المأساة ولم يتمّ التوصل إلى المخرج التاريخي المطلوب.
ما زالت دولة كالجزائر تطالبُ فرنسا بتقديم اعتذار واضح جليّ دون لبس عن فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر. وبغضّ النظر عن لزومية ذلك الطلب للإستهلاك الشعبوي المحلي، والذي يمارسه النظام الجزائري وفق توقيتات وأجندات ملتبسة، فإن عدم إغلاق هذا الملف، بشكل جديّ وموضوعيّ وجوهريّ، يترك للخطاب الإسلاموي، وقبله “الثوروي”، هامشاً رحباً للنهل من محيط لا ينضب.
كان على الغرب عامة، والأوروبيين خاصة، ممارسة تمارين مضنية لتجاوز أوجاع الحرب العالمية الثانية، وكان على ألمانيا ما بعد النازية أن تدفع الثمن، بذكاء، لتجاوز المقتلة والذهاب نحو تشكيلات أوروبية وأطلسية موحدة. وجدير هنا التذكير أن كارثة تلك الحرب حصلت داخل “العالم المسيحي”، فما بالك بخبث الهوّة التي تحفرُها “حرب الجزائر” بين العالمين المسلم والمسيحي.
لبسُ التاريخ وحده قد يفسّر سرّ هوية القتلة ومنطق المبررين للمقتلة. ولبسُ الراهن في تعامل العالم مع داعش يفسّر عبثية الظاهرة وتعملقها حتى باتت تضرب تحت الشرفات الباريسية. قبل الحدث المأساوي في باريس كانت فرنسا قد أعلنت عن إرسال حاملتها الوحيدة للطائرات “شارل ديغول” إلى المنطقة، بما اعتبر عزماً فرنسياً على لعب دور أساسي ضد داعش. قبل الحدث كان الرئيس الفرنسي قد أعلن أن طائرات فرنسية ستشاركُ في ضرب داعش في سوريا هذه المرة. وقبل الحدث كانت فرنسا ما تزال متمسكة بخيارات سورية تتطيح بالأسد عن دمشق. وقبل الحدث كانت فرنسا تلعب دور الصقر المزعج في التوصل للاتفاق النووي مع إيران.
داعش ضرب في باريس. قبلها ضرب في تركيا وتونس ولبنان (دون الحديث عن ساحة التنظيم في سوريا والعراق). يعرف تنظيم أبو بكر البغدادي أعداءه في “دار الإسلام” كما في “دار الكفر” (حسب الأبجديات الإسلاموية). التنظيمُ واضحٌ في نصوصه دقيقٌ في خطابه جديٌّ في أجندته. بالمقابل يفرجُ المشهد المقابل عن غياب استراتيجية حقيقية جادة وناجعة للقضاء على داعش. يذهب أحد الجنرالات الاميركيين (مايكا ناغا، قائد العمليات الأميركية الخاصة في الشرق الأوسط) للاعتراف: “لم نفهم داعش ولم نفهم ما يريده بعد”. ينقسمُ معسكر أعداء داعش داخل أجندات متباينة وأحياناً متناقضة وأحياناً أخرى متواطئة. لا تلتقي الرؤى الأميركية مع تلك الأروربية، ولا تلتقي رؤى الجميع مع رؤى الدول المعنية في المنطقة، لا سيما الخليجية وتركيا، ولا تلتقي رؤى الجميع مع رؤى روسيا المطلّة بقوة على المشهد العام.
داخل تلك الفوضى يمرُّ الحدث الفرنسي، على استثنائيته وجسامته، كتفصيل منطقيّ للفوضى الدولية العامة في مقاربة ملف الإرهاب، بجوانبة التقنية العسكرية، والأهم، بجوانبه السياسية الجيواستراتيحية المتعلّقة بالتحوّلات التاريخية الكبرى الجارية في كل المنطقة. داخل تلك الفوضى تجري مقارنة الحدث الداعشي في باريس بذلك في ضاحية برج البراجنة في لبنان، ويجري استغراب تباين مستوى ردّ الفعل العالمي على الحدثين.
يرتبكُ عالم في انتاج الانفعالات المطلوبة إزاء جريمة تقترف في العالم المقابل. يرتبكُ الجمهور في العالم الإسلامي بين إدانة تجعلهم جزءاً من مزاج دولي، وتحفّظ ورفض للإدانة بذريعة التاريخ وعدم المساواة في مقاربة المآسي في العالم. في فرنسا ينشطُ يمين متطرف ينهلُ من الثمار السامة للحدث، فيما تفرجُ الكتلة الإجتماعية الثقافية الإعلامية السياسية عن نضج عال في التعامل مع الكارثة ومرونة لافتة في امتصاص مفاعيلها. في ذلك اشتداد الأصوات المبرِّئة للإسلام من إثم الإرهابيين، فيما يروّج الإعلام لقصص المسلمين الذين لعبوا دوراً مفصلياً في احباط عمليات تفجير، أو في سقوطهم ضحايا، كما كل الضحايا، لذلك الإرهاب.
وفق تلك الفوضى يعيدُ العالم، من خلال فيينا، قراءة مشهد الإرهاب وجمهور الإرهابيين برمته. في عجالة سريالية، وعلى وقع العمليات الداعشية التي جرت وستجري، تنشطُ ورشة لتصنيف الجماعات بين إرهابية ولا إرهابية، وفق معايير رخوة تفرضها العجالة التي، للمفارقة، تجهدُ داعش لتجعلها أكثر تعجلاً في منطقة يعوزها كثير من الأناة والتأمل.
محمد قواص
صحافي وكاتب سياسي