في سابقة تاريخية وأمنية، نحن أمام ثلاثة محاور إقليمية متصارعة في الشرق الأوسط، حيث المحور الأول يمثل إيران والتوسع المذهبي الشيعي مستغلاً هوية ومعتقدات وفقر وجهل بعض الفئات من المجتمعات العربية والإسلامية، وهو الاستغلال نفسهُ الذي يستخدمهُ المحور الثاني بقيادة قطر وتركيا نحو دعم حركة «الإخوان المسلمين» والتيارات والمليشيات السُنية المتطرفة من أجل مصالح خاصة في تغيير ميزان القوى في الخليج والشرق الأوسط، يقابل ويصد كلا المحورين، المحور الذي تقودهُ السعودية والإمارات ومصر والبحرين ويضم دولاً وأطرافاً عربية عديدة، ويسعى «المحور العربي» إلى حفظ المجتمعات العربية بعيداً عن الصراع باسم الدين والهوية، وخلق استقرار مقبول لتحقيق تنمية اقتصادية وبشرية تخدم مطالب وتطلعات الكثير من المجتمعات العربية. فالمحور العربي بقطع العلاقات مع قطر في 5يونيو 2017 في إطار إلى تنفيذ استراتيجية لوضع حد لإنهاء السياسة القطرية القائمة على الدعم المتعدد للمنظمات الإرهابية السُنية والشيعية على حد سواء، واستمرار الحملات والخطابات الدينية والإعلامية الهدامة والمخربة في المنطقة، مع خطورة التقارب البراجماتي مع إيران على حساب أمن واستقرار منطقة الخليج والشرق الأوسط، فالمحوران «الإيراني- القطري والتركي»، يقودان المنطقة إلى بيئة متناحرة من أنظمة دينية ومذهبية، وكأننا في أوروبا قبل معاهدة وستفاليا 1648م.
قد رأينا في تناول هذا التقرير، البداية بأبعاد السياسة القطرية، ثم سوف نتناول المحاور الثلاثة بشكل يعكس ماهيتها وأهدافها في مستقبل منطقة الشرق الأوسط.
أبعاد السياسة الخارجية القطرية
ثمة عوامل كونت السياسة الخارجية القطرية المتناقضة بين المصالح الخاصة وبين أمن الخليج ومنطقة الشرق الأوسط. فعلى المستوى الخليجي «للدول الخليج بالإضافة لليمن» كانت المشاكل والصراعات الحدودية البرية والبحرية الممتدة منذ الانسحاب البريطاني في المنطقة حتى احتلال الكويت وتحريرها، قد عكست دائما الدولة الأقوى التي تحظى بعلاقات دولية مهمة. وعلى الرغم من أن تحرير الكويت جسد تلاحم دول مجلس التعاون ودول عربية مع التحالف الدولي، إلا أنه أبرز حيزاً كبيراً لدول المنطقة في تحقيق أمنها الخاص والتطلع إلى المزيد من القوة والحضور الإقليمي والدولي بشكل براجماتي. وعلى المستوى الداخلي لقطر توفر لها قيادة ذات إرادة كبيرة مع ثقل اقتصادي منذ 1995، وأخذت قطر تنشط إقليمياً ودولياً على المستوى الاقتصادي والتجاري والدبلوماسي وحتى الرياضي.
وأرى أن دائرة الفاعلين من غير الدول تعد أحد أهم عوامل فعالية قطر بصورة براجماتية «خالية من المبادئ»، فعلى سبيل المثال، فشل المفاوضات الفلسطينية والإسرائيلية قاد إلى بروز حركة «حماس»، والذي شكّل صراعاً بين منظمة «فتح» المدعومة عربياً بشكل كبير وبين «حماس»، والذي ألقى بظلالهِ على سياسة قطر وإيران تجاه القضية الفلسطينية حيث شكل دعمهما «الدوحة وطهران» لحماس اختراقا للنظام العربي والقوى العربية والدولية المعنية بسير المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، وتاريخياً، فإن إيران الخميني سباقة في هذا الأمر عبر «حزب الله». واتسعت دائرة استغلال القضية الفلسطينية من خلال وقوف السياسة القطرية وأيضاً التركية مع السياسة الإيرانية في محور «الممانعة» ضد محور «الاعتدال العربي»، مدعين مناصرة القضية الفلسطينية عبر المقاومة مع الترويج للساحة العربية بأن «حزب الله» في لبنان دورهُ مقاومة إسرائيل، رغم حقيقة علاقة الدول الثلاث «قطر وإيران وتركيا» بإسرائيل بصور متعددة رسمية وسرية وبراجماتية.
أخذت دائرة الفاعلين من غير الدول تتسع في عددها وجغرافيتها ودورها عندما وجدت بلدان ليس فيها نظام سياسي يسيطر على الأمن بشكل محكم مع وجود انقسام متناحر داخل البنية الاجتماعية لتلك الدول بسبب الاستقطاب الديني والمذهبي والقومي والكسب المادي للبعض من الفوضى، وذلك كان من خلال أحداث متسلسلة من الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، واحتلال العراق 2003 ، واندلاع «الربيع العربي»، لذا تزايد عدد المليشيات السُنية والشيعية، ودعاة الصراع باسم الدين والمذهب والتجنيد من أجله بشراً ومالاً وتشريعاً، مع تعدد الجماعات الكردية وبروز هويات أخرى كالمسيحية واليزيدية. وهؤلاء الفاعلين من غير الدول «يحتاجون الدعم المادي والإعلامي، ويمثلون مصالح وأهداف دول معينة، وهذا الأمر يتضح في طبيعة المحاور الثلاثة الآتية».
المحاور الإقليمية: هذه المحاور الثلاثة تشتد حلقات الصراع بينها مع وجود تصورات من تقلص دور الدول العظمى والكبرى في المشاركة في تحديد مستقبل منطقة الخليج والشرق الأوسط.
المحور الأول(الشيعي الصفوي)، فإيران تستبيح شؤون وسيادة الدول عبر البعد المذهبي الشيعي لتحقيق توسع جغرافي لها في المنطقة، وذلك من خلال سيطرتها على القوى الاجتماعية والمليشيات العراقية الشيعية وحكومة بغداد، ودعمها نظام بشار إلى جانب «حزب الله»، في لبنان وسوريا أيضاً، وإلى«الحوثيين» في اليمن، بالإضافة إلى ذلك، تمتلك «إيران» حلقات تجارية ومذهبية متعددة وعابرة للبلدان من شركات ومؤسسات تجارية وإعلامية إلى جامعي زكاة الخمس مع استغلال ثروة العراق وثروة الشعب الإيراني في طموحها التوسعي، وناهيك عن خطاب السلطة المذهبية الشيعية الإيرانية بأنهم مع المستضعفين الشيعة في أي بلاد وأنهم يرفعون راية الحق التاريخي والإلهي. وفي زعزعة الأمن في المنطقة تعتبر إيران صنواً للمليشيات الشيعية والتطرف الشيعي بالمنطقة، بل من خبيث «السياسة الإيرانية» دعم التطرف السني لكي تحل الفوضى وتبني عليها فوضى أخرى، حيث ظهور «داعش» كان مدعوماً من طهران، وقد ساعدها ومكنها ذلك من السيطرة على حكومة بغداد ورفع الولاء المذهبي، وخلق مصالح أمنية مع حكومة أربيل، ويمكن القول إن طهران استغلت تساهل أنقرة في مسألة تدفق المجاهدين نحو«داعش» عبر حدودها، حيث كان من أهداف تركيا منع السيطرة الإيرانية على العراق، وأيضا تورط إعلام قناة «الجزيرة» في تشويه الإسلام، حيث عكست رسائل إعلامية واضحة تصوراً بأن “داعش” يمثل وجه الإسلام الحقيقي. وهناك مسألة خطيرة أخرى، فقد حطم البعد المذهبي الشيعي بقيادة إيران المواطنة في دول كثيرة ليس في العراق ولبنان وسوريا واليمن فقط، بل حتى الأمن الداخلي في البحرين والكويت بمثالها الصارخ في خلية العبدلي.
أما المحور الثاني القطري التركي، فيأخذ بسياسات طموحة عبر دعم جماعة الإخوان المسلمين والمليشيات السنية المتطرفة نحو الوصول إلى السلطة في بعض البلدان العربية، وهذا الأمر يهدف وهو كفيل بتغيير القوى والتحالفات الإقليمية عبر عامل الدين، مثل تجاوز دول قدراتها البشرية والجغرافية كقطر تحديدا. أما أنقرة المتأثرة بنهاية الحرب الباردة وتطلعات حزب العدالة والتنمية 2002، فأخذت ترسم لنفسها مكانة إقليمية كبيرة في الشرق الأوسط عبر الانفتاح مع العالم العربي حتى”الربيع العربي”، حيث رأت أنها يجب أن تكون الدولة الأهم في الشرق الأوسط في ظل المتغيرات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي ومقابل إيران وإسرائيل.
أكذوبة إبليس
أعظم أكذوبة لإبليس هي”أنه غير موجود”، وهي الأكذوبة نفسها التي يستخدمها كل من (المحور الإيراني -المحور القطري والتركي)عندما يواجهون أدلة مادية وإعلامية وجغرافية ولوجستية، تثبت بأنهم مازالوا داعمين للإرهاب المتمثل في المليشيات الإسلامية المتطرفة السنية والشيعية بالمال والسلاح والبشر إلى جانب خطابات وتشريعات رجال الدين، وإطلاق القنوات التلفزيونية. وهناك شبكة مصالح متقاطعة تجمع المحور الإيراني مع المحور القطري والتركي، رغم أن الطرفين يقفان على النقيض من استغلال الدين الإسلامي السُني والشيعي لتحقيق مصالحهما، فإيران وقطر يجمعهما جوار جغرافي بحري واشتراكهما في حقل غاز الشمال، وغالبية الحقل لقطر، كما تتيه الدوحة مع إيران بلغة الواقعية، التي لا تؤمن بالمبادئ والقيم، حيث ترى أن وجود إيران قوية يشكل علاقة توازن في منطقة الخليج، وخاصةً مع السعودية والإمارات، اللتين تعارضان السياسة القطرية واستخدامها للدين في تغيير القوى وأنظمة وخريطة المنطقة، وهذا ما يفسر دعم الدوحة لطهران في”عاصفة الحزم” بشكل سري والذي بدورهِ هدم مشاركتها مع أشقائها العرب في اليمن، كما ساعد على إطلاق سراح القطريين المحتجزين بالعراق.
ويمكن قراءة مسارعة تركيا إلى تمرير الاتفاقية العسكرية مع قطر بسبب مقاطعة الدوحة من قبل المحور العربي، من أنها ترمي إلى إلصاق صفة الحليف القوي لقطر، وبأنها ستكون فاعلة في أمن الخليج بشكل مباشر مع استمرار سياستهما في دعم الإخوان والتيارات الإسلامية السنية، كل ذلك مع مراعاة وحفظ العلاقة مع السعودية ودول مجلس التعاون، وربما أنقرة بذلك تحمل رسالة لواشنطن الموجودة قواتها في منطقة العديد القطرية بأن تركيا رقم مهم في معادلة الأمن بالمنطقة، خاصةً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا، ودعم واشنطن للأكراد في سوريا، وعدم إعطاء تركيا دورا كبيرا في أمن الشرق الأوسط. وبالنظر إلى العلاقة التركية الإيرانية التي يجمعها الجوار الجغرافي والقضية الكردية مع حقيقة تنافسهما على الدولة الأهم في الشرق الأوسط، نكتشف من خلال البعد التاريخي الحديث والوضع الراهن أنهما يستفيدان من الخلافات العربية-العربية، ويسعيان إلى تحقيق المزيد من القوة والمكاسب السياسية والاقتصادية والثقافية على حساب الدول العربية، خاصة في حالة ضعف وعدم توفر تحالفات عربية تقلص من دورهما الإقليمي والدولي.
المحور العربي، يرتكز على المملكة السعودية والإمارات ومصر البحرين ويتسع إلى أطراف ودول عربية عديدة، ويحمل هذا المحور ثقلا اقتصاديا وسياسيا وقانونيا وعسكريا، ويسعى إلى منع الدعم المادي والإعلامي ووقف تسخير التشريعات والفتاوى الدينية للجماعات السنية والشيعية المتطرفة. فتلك الجماعات (فاعلين من غير الدول) تخدم مصالح إيرانية نحو التوسع الجغرافي المذهبي إلى جانب المصالح التركية والقطرية في تغيير موازين القوى عبر تغيير أنظمة بعض الدول العربية، وكلا المحورين(الإيراني –القطري والتركي) يمزق المنطقة من خلال تفكيك القاعدة الاجتماعية لبعض الدول العربية عبر الهوية الدينية والمذهبية واختلاف التوجهات والتيارات الاجتماعية والثقافية السائدة في البلدان العربية، ويُستثنى من ذلك أطراف سورية سُنية معتدلة ووطنية تتبع السعودية والمحور العربي. وأخيراً فإن مقاطعة المحور العربي لقطر تأتي لتحجيم الطموح الإيراني وتقويم وتصحيح السياسة الخارجية القطرية نحو إعادتها إلى فلكها العربي. وإلا يخطئ البعض في وجود علاقات عربية إيرانية كمبرر للعلاقة القطرية الإيرانية، فيجب على الدوحة وضع محددات لتلك العلاقة تخدم مصالح قطر مع أمن الخليج والمنطقة، والخروج من دائرة الاعتماد المتبادل في دعم الفاعلين من غير الدول تحديدا المليشيات والجماعات الدينية السنية والشيعية. حقيقةً، استمرار سياسات المحورين “الإيراني- القطري والتركي” يقودان المنطقة إلى بيئة متناحرة من أنظمة دينية ومذهبية. وربما سيجد المحور العربي في دعم إقليم كردستان العراق واستقلالهِ كدولة عاملا مهما لتحجيم الدور التركي والإيراني في مستقبل المنطقة مع استحقاق تاريخي وجغرافي للأكراد. فسياسات المحور العربي ماضية بكل قوة نحو حفظ المجتمعات العربية من استغلال واستنزاف قدراتها البشرية والمادية، ومنع تشويه بعدها الحضاري عبر استغلال الدين والمذاهب والهويات الاجتماعية، فكل ذلك سيقود إلى خلق استقرار لتحقيق تنمية اقتصادية وبشرية تخلص الكثير من المجتمعات العربية الفاقدة للحاجات الأساسية للحياة من الصحة والعمل وتوفر التعليم والأمن.
نقلاعن ایلاف