توْق الأكراد الراهن لإنشاء دولتهم المستقلة ينطلق على قاعدة فشل المنظومة السياسية والدستورية لنظام الحكم الحالي في العراق في إقناعهم، كما إقناع مكونات أخرى بالانتماء إلى هذا البلد كخيار نهائي وضمن حدود نهائية.
لا يملك رئيس إقليم كردستان في العراق مسعود البارزاني معطيات تاريخية جديدة تتيح له تحقيق حلم الأكراد بالاستقلال وإقامة دولتهم القومية. يستنتج الرجل ارتباك الدول من حوله على نحو يزيّن له الأمر بصفته فرصة لتمرير محرّم لم تدرجه اتفاقات سايكس بيكو الشهيرة منذ أكثر من قرن. ومع ذلك فإن المناورة التي يقودها لإجراء استفتاء حول انفصال إقليم كردستان عن العراق، في 25 سبتمبر المقبل، تطرح أسئلة كثيرة حول التوقيت أولا، وحول المرامي الحقيقية ثانيا، وحول الوظيفة التي يلعبها هذا الاستحقاق داخل الورش الغامضة الجارية في المنطقة ثالثا.
وإذا ما جرى ذلك الاستفتاء الذي “لا رجعة عنه”، حسب هوشيار زيباري وزير خارجية ومالية العراق سابقا ورئيس الهيئة المشرفة على الاستفتاء حاليا، فإن نتيجته معروفة في إظهار توْق أكراد العراق للعيش ضمن كيان كردي الشكل والمضمون، ولن يكون في الأمر مفاجأة كبرى. لكن السؤال الأهم هو ماذا بعد هذا الاستفتاء، والذي في آلياته وحيثياته وظروفه لن يكون ملزما لبغداد، ولن تهتم له الدول الإقليمية المعنية بهذا الشأن، ولا يحمل أي مسوّغ دستوري وقانوني يجعله يحظى باعتراف وشرعية دوليين.
أثارت نيكولا ستيرجن رئيسة وزراء أسكتلندا إثر الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي مسألة طلب إجراء استفتاء جديد يُخرج أسكتلندا من المملكة المتحدة. لم توافق رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على ذلك واعتبرت توقيته “غير مناسب”. وفي رفض حكومة لندن للطلب الأسكتلندي ما يجعل أي استفتاء في اسكتلندا دون غطاء من الحكومة المركزية تفصيلا محليا يشبه الفعاليات الفلكلورية، ولا يمكن أن يكون لنتائجه وقع ملزم كذلك الذي جرى (18 سبتمبر) عام 2014 برعاية حكومة ديفيد كاميرون والذي انتهى إلى رفض الأسكتلنديين للاستقلال.
تذهب أربيل إلى خيار الاستفتاء دون موافقة حكومة بغداد. تتعذر المنابر القريبة من البارزاني بإثارة المادة 140 من الدستور حول مسألة الاستفتاء على “المناطق المتنازع عليها”. وتردّ المنابر في بغداد أن إقليم كردستان ليس منطقة متنازع عليها ولا نزاع حول محافظات دهوك وأربيل والسليمانية. وبين ذلك الجدل الدستوري البيزنطي يتسرّب التصدع الذي يدفع الأكراد لاشتهاء الدولة المستقلة ترياقا لمخاض عسير لم تستطع الصيغة الفيدرالية لعراق ما بعد عام 2003 أن تنهي أعراضه.
كل الأحزاب الكردية ما عدا حركة التغيير والجماعة الإسلامية (اللذين يطالبان بتفعيل البرلمان الكردي قبل الكلام عن أي استفتاء) أجمعت على الذهاب مذهب مسعود البارزاني في إجراء استفتاء الخريف المقبل. تتباين تلك الأحزاب في ما بينها وقد تتناقض مع الحزبين الكرديين الكبيرين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، على ملفات عديدة، لكنها متّفقة على ملف الاستقلال كهدف لا بد أن يحققه الأكراد.
لن توافق بغداد ولن توافق طهران وأنقرة على مغامرة البارزاني “المحسوبة”. لا شيء في هذا العالم يوحي بأن العواصم الدولية جاهزة لإجراء هذه الجراحة التاريخية في حدود العراق.
وتشمل الدعوة إلى إجراء الاستفتاء الأكراد داخل الإقليم وأولئك خارج الإقليم، لا سيما في المناطق المتنازع عليها، وخصوصا مدينة كركوك. وفي ذلـك أن البارزاني وصحبه يمسّون محرمات متعددة في سعي لإطلاق ورشة كبرى، تتعلق بمبدأ الاستقلال وحدود الدولة العتيدة. ولئن ترفض بغداد توفير تغطية دستـورية لاستفتاء قررته أربيل، فإن هذا الاستفتاء نفسه تعوزه آلية قانونية من داخل البرلمان نفسه، وهو برلمان يعطله البارزاني وفق اتهامات خصومه، خصوصا بعد منع رئيس البرلمان، يوسف محمد، من دخول عاصمة الإقليم إثر مواجهات بين حركة التغيير، التي ينتمي لها رئيس ذلك البرلمان، وحزب البارزاني، أسفرت عن حرق بعض مكاتب هذا الحزب في السليمانية عام 2015، عن أزمة شرعية للبارزاني نفسه بعد انتهاء ولايته على رئيس الإقليم منذ عامين.
في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وفيما كان الأكراد يتحصّنون داخل منطقتهم الآمنة التي رسمها لهم قرار مجلس الأمن رقم 688 عام 1991، خرج رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني بتصريح شهير في رد على سؤال حول مشاريع الأكراد الانفصالية. قال الرجل إذا ما قامت دولة في العراق بنظام ديمقراطي تعددي يضمن الحريات للجميع، فأنا لا أريد أن أكون إلا مواطنا عاديا داخل الدولة العراقية. لم يكن الرجل آنذاك ينتظر غزوا للعراق ولا سقوطا لنظام بغداد.
ينطلق توْق الأكراد الراهن لإنشاء دولتهم المستقلة على قاعدة فشل المنظومة السياسية والدستورية لنظام الحكم الحالي في العراق في إقناعهم، كما إقناع مكونات أخرى بالانتماء إلى هذا البلد كخيار نهائي وضمن حدود نهائية. استبطن دستور عام 2005 نزوعا نحو التفكك من خلال إقامة نظام فيدرالي تحوّل بالنسبة للأكراد إلى نظام كنفدرالي، فيما فتحت المواد المبيحة لقيام الأقاليم الباب واسعا أمام خرائط تفتيت محتملة مُقنّنة. عجزت التوليفة الدستورية، التي تواطأ الأكراد أنفسهم في طبخها، في إيجاد حلول لمسألة تقاسم السلطة والثروة، وتوفير علاقة صحية بين حكومة المركز وحكومة الإقليم، والوصول إلى توزيع عادل للميزانية وتنظيم علاقة البيشمركة بالمنظومة الدفاعية للعراق.
بيد أن الشكوى الكردية تنسحب على مكونات العراق الأخرى، وقد لا يمكن مقارنة حدّتها مع مظلوميات أخرى، لا سيما لدى المكوّن السني الذي ما فتئ يعتبر أن الهيمنة الإيرانية على حكومة وبغداد مسؤولة عن تهميشه من جهة، ومنع البلد من استعادة عافيته ووحدته ومناعته من جهة أخرى. ورغم أن بعض المحافظات السنية أثارت مسألة المطالبة بتحويلها إلى أقاليم تحظى بشكل من أشكال الحكم الذاتي، إلا أن قاعدة الصراع الداخلي تتأسس على ثوابت وحدة البلاد وسلامة حدودها الدولية. وبالتالي فإن خيار أربيل لا يتّسق مع قواعد الصراع الداخلي وينزع نحو أجندات ما فوق عراقية خطيرة.
تعمل ألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى وفق أشكال مختلفة للنظام الفيدرالي. غير أن منظومة قانونية دستورية تنظم علاقة المكونات الاجتماعية والثقافية والجغرافية على النحو الذي يحمل الاستقرار والانسجام إلى النسيج الوطني العام لهذه الدول. والمشكلة في العراق لا تكمن في تلك التعددية الطائفية والقومية التي تُلصق بها خطيئة التصدع منذ عام 2003، بل إلى وصفة دستورية أوحى بها المحتل الأميركي آنذاك وباركتها أحزاب الأمر الواقع في عصر السطوة التي تمارسها طهران على البلد ومنابره، وأن الحكمة تكمن في إيجاد الوصفة المناسبة وليس الخروج عنها والحرد من الشركاء داخلها.
يعتبر الأكراد أن سقوط الموصل المريب في يد تنظيم داعش أقام دليلا آخر على عجز الدولة العراقية عن حماية مواطني هذا البلد. استنتج الأكراد بسهولة أن حماية إقليمهم وصون حضورهم منوطان بقوات البيشمركة دون غيرها، وتعتمدان على شبكة العلاقات السياسية والعسكرية التي تقيمها حكومة الإقليم ورئيسه مع العالم. وإذا ما استقال العراق من دوره في تأمين سقف للأكراد يتظللون به ومن وظيفته في توفير إمكانات الدفاع عنهم وتقديم ضمانات تحمي ثرواتهم، فإن استفتاء الخريف يستهدف الاستقالة من العراق البلد والعودة إلى “بيت كردي مستقل”.
لن توافق بغداد ولن توافق طهران وأنقرة على مغامرة البارزاني “المحسوبة”. لا شيء في هذا العالم يوحي بأن العواصم الدولية جاهزة لإجراء هذه الجراحة التاريخية في حدود العراق لكن لا شيء في هذا العالم المتحوّل بسريالية يوحي باستحالة ذلك. تعتبر واشنطن الاستفتاء تهديدا للحرب ضد داعش، فيما لا يبدو أن موسكو جاهزة للاستغراق في خرائط تعيد رسم مشهد المنطقة من جديد. يعرف مسعود البارزاني ذلك جيدا، وتسوّق أجواؤه المحيطة أن الاستفتاء لا يعني الاستقلال الفوري، بل إن الأمر يستغرق كثيرا من الوقت وكثيرا من المفاوضات الإقليمية والدولية، وأن الأمر هو تحقيق لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره.
لا شيء يمنع الأكراد قانونيا وأخلاقيا من ممارسة حقهم الكامل في تقرير المصير وفق ما تسمح به القوانين الأممية. لكن ذلك الحق لا يقيم الدول ولا يرسم الحدود، فذلك دونه اعتراف دولي ورضا أممي لا يتوفر في الوقت الحاضر على الأقل. قد يبدو أن البارزاني يهرب من أزمة شرعيته الداخلية باتجاه دغدغة مشاعر الأكراد القومية القديمة. وقد يبدو أن الرجل يستوحي من مناطق سوريا الآمنة عبق تقسيم قد تصل مفاعيله إلى العراق. في الأمر مقامرة جديدة لطالما خسرها الأكراد في ألعاب سابقة.