الحرب الحقيقية ليست بين الإسلام والغرب، بل بين إسلام والإسلام.
عندما تكثر الذئاب المنفردة فذلك يعني أن الإرهاب أصبح جماعيا حتى لو كانت ممارسته تأتي منافية لقواعد الإرهاب التقليدية في التنظيم والتسلح والتخطيط والتنفيذ.
وعندما تتكرر الاعتداءات الإرهابية في بريطانيا فإن سؤالا عاجلا يطرح نفسه: لماذا بريطانيا؟
على أن الحكمة تقتضي أن لا يستغرق المراقب كثيرا في الحفر وفق رؤية “مؤامراتية” تروم استنتاج أغراض أخرى، من خلال المكان والزمان، تختلف عن أغراض الإرهاب الحقيقي في تقويض كل النظام المجتمعي والسياسي خارج البيئة التي ينطلق منها. فمنذ “الفرقة الناجية” يعامل الإرهابيون البشرية خارج تلك الفرقة بعقيدة لا تفرق بين عرب وعجم وبين كبير وصغير ولا بين الأعراق والجنسيات والهويات.
من نفذ اعتداءات السبت في لندن لا يختلف في عقيدته وجذوره الفكرية عن أؤلئك الذين نفذوا تلك في 11 سبتمبر الشهيرة كما تلك في المدن العربية والاسلامية كما تلك التي استباحت دم الأقباط في المنيا مؤخراً.
وما يختلف بين كل جريمة وأخرى يكمن في هوية المنفذين ووسائل تلك الجريمة وأدواتها. وبالتالي فإرهابيو تنظيم داعش كما أؤلئك التابعون لتنظيم القاعدة أو الجماعات المحلية التابعة للبغدادي والظواهري، لا يسعون لحرب بين شرق وغرب، ولا لجهاد المسلمين ضد الأمم الأخرى، بل يعملون على خلق حالة عبث وفوضى في أي مجتمع يعيشون فيه، ويسعون إلى تدميره بصفته وجوداً كافراً يتناقض مع البيئة “الإيمانية” التي يروّجون لها أساسا لدولتهم “الاسلامية” الفاضلة.
على أن تلك الجماعات التي نتجت عن أورام كبُرت ونمت مترعرعة من اضطراب سياسي اقتصادي يجتاح الشرق الاوسط، والتي وجدت فضاء رحباً لها منذ الفوضى والفراغ اللذان سببهما “الربيع العربي”، تحركت في بريطانيا مستغلة خصوصية في مضمون وشكل المنظومة الملكية البريطانية وأدواتها، بحيث استفادت بحدود قصوى من روحية التشريعات المعمول بها في هذا البلد، والتي، ووفق فلسفة تعدد الثقافات ونموذج العيش وفق هذه التعددية، أتاحت تنامي شبكة من المنابر والمساجد والجمعيات ووسائل الإعلام التي كثرت داخلها ظواهر التشدد كما مظاهرها.
وعلى الرغم من استغراب كثير من المسلمين القاطنين في بريطانيا أو الزائرين لهذا البلد قبول السلطات بسلوكيات ومشاهد تشي بالتشدد والتطرف وقد باتت محظورة داخل الدول الاسلامية نفسها، فإن الحكومات البريطانية المتعاقبة تعاملت مع الامر بصفته أعراضاً تتصل بحرية التعبير وحرية المعتقد طالما أنها لا تشكل تهديدا مباشراً وملموساً.
وعلى الرغم من تفاخر بريطانيا بنظامها التشريعي والسياسي المتسامح مع تعايش البريطانيين داخل فضاءات اجتماعية متعددة، فإن لندن استفاقت قبل سنوات على حقيقة أن عدد البريطانيين المقاتلين في صفوف داعش هو الأكبر مقارنة بالمقاتلين الذي صدّرتهم دول أوروبية أخرى، كما استفاقت على حقيقة أن التسامح في احترام الثقافات والخصوصيات أفضى إلى تخصيب مريح لفكر التكفير والتشدد والتطرف والارهاب الذي خّرج مئات من الجهاديين يتم تصدير جلّهم نحو “أرض الإسلام” فيما ينشط آخرون محليا وفي الوقت المناسب في “أرض الكفر”.
ستكشف هوية إرهابيي ليل السبت عن حكاية أخرى من حكايات الإجرام، لكن المعلومات المتعلقة بمنفذ عملية مانشستر الانتحارية الشهر الماضي تختصر خلاصة الاشكالية البريطانية التي تستنتجها لندن هذه الأيام وتقرّ بها رئيسه الحكومة تيريزا ماي. تروي المعلومات أن المنفذ ترعرع في بريطانيا وهو إبن ليبي كان قياديا داخل “الجماعة الاسلامية المقاتلة”، وهي تشكيل تابع لتنظيم القاعدة كان يعمل ضد نظام معمر القذافي، وأن هذا الوالد عاد إلى بلاده بعد سقوط النظام وبقي وفيا لمعتقداته كما لتنظيمه، بما يعني أن “الحقبة البريطانية” لم تغير من قناعات الرجل ولا أثّرت في الخيارات التربوية المتعلقة بأبنائه، كما أن تلك الحقبة نفسها أتاحت دون عائق قانوني كبير انتاج التشدد داخل العائلة لدرجة خروج إرهابي ينشد الجنة عن طريق قتل البشر والفرح في قاعة للعروض الموسيقية.
ولا يمكن تحميل بريطانيا مسؤولية ظاهرة عالمية عابرة للحدود. المعضلة شائكة معقدة متعددة المداخل بحيث لا يمكن اختصارها.
بيد أن هذا البلد الذي عبّر استفتاء الخروج من الاتحاد الاوروبي منذ عام عن انقسام مجتمعي داخله وتصدّع في منظومة القيم السياسية والاجتماعية التي ينتهجها، يواجه في الأسابيع الأخيرة محنة الإرهاب بصفته نتاج سياق قديم في التعامل مع ظواهر الاصولية من جهة، وبصفته يتجاوز قدرات ومواهب أجهزة الأمن الشهيرة بنجاعتها وفعاليتها وتقدمها مقارنة بكبريات الأجهزة الدولية.
ومن ذلك التصدع تتسرب محنة تعايش بريطانيا مع الاسلام والمسلمين بنسخة القرن الواحد والعشرين. بريطانيا حريصة على اعتبار نموذجها السياسي الثقافي الاجتماعي متفوقا، بما في ذلك قدرته على “دمج” الاسلام بصفته مكونا طبيعيا تحت التاج الملكي البريطاني. وحريصة على تسويق هذا التفوق بصفته مسوغا لقرار البريطانيين “هجرة” الاتحاد الأورربي والخروج من “سطوة” بيروقراطيي المفوضية الاورربية قي بروكسل. لكن سلسلة الاعتداءات الارهابية التي شهدتها البلاد مؤخراً عجّل في تكبير شقوق هذا التصدع إلى درجة أن تيريزا ماي، التي تخوض انتخابات مفصلية الخميس تقرر مستقبلها السياسي، تدعو إلى كثير من “المراجعة”.
ولطالما تنافس نموذج التماثل والاندماج في العالم الغربي مع نموذج التعدد الثقافي المجتمعي المعمول به في دول كبريطانيا والولايات المتحدة. لا يبدو أن “التماثلية” قد نجحت ولا يبدو أن “التعددية” بالمعنى الانغلوساكسوني قد صمدت بعد حدثيْ ترامب رئيسا والبريكست. وعليه فإن المراجعة التي تدعو إليها ماي في عمل أجهزة الامن ستنسحب على فلسفة التعايش البريطاني نفسها.
يكفي تأمل تغريدات البريطانيين أنفسهم على موقع تويتر بعد دقائق على شيوع نبأ الاعتداءات لاستنتاج الانقسام في فهم جريمة تستهدف البلد وناسه. تراوح مزاج البريطانيين في تلك التغريدات بين تحميل المسلمين وزر الإثم وبالتالي الدعوة إلى رفع الاسوار في وجههم وبين تبرئة الاسلام من تلك الجريمة والتذكير بأن 99 بالمئة من ضحايا هذا الارهاب هم من المسلمين. وفي هذه التغريدات أيضاً سجال بريطاني بريطاني يقف إسلام اليوم مشدوها عاجزاً عن المقارعة داخله.
نعم بريطانيا تراجع نفسها وهذا بديهي في تطور الديمقراطيات. تبدو تلك المراجعة حتمية للتعامل مع ظاهرة واردة من بيئة إسلامية يكثر فيها ضجيج المراجعات دون حجيج كثير. تقف المراجع الاسلامية موقف المدين والمستنكر لتلك الجرائم تماما كما هو موقف المراجع غير الاسلامية. تعتبر مراجع المسلمين أن الارهابيين لا يمثلون الاسلام، فيما لا يعرف العامة في العالم من يمثل هذا الاسلام. فإذا ما تقصد إرهابيو بريطانيا الضرب في الأماكن الشهيرة التي تجعل من إسلامهم أكثر شهرة في العالم، فإن ممثلي “الاسلام الصحيح” مجهولون لا يفقه العالم لشأنهم ولا يدرك صدق وقعهم. وإذا ما كان الارهابيون ينهلون ببساطة من فقه الاسلام والمسلمين، فإن المراجعة المفقودة ما زالت ترتبك أمام تراث عاث فيه الزمن تشويهاً، بحيث باتت “صحة” الدين وجهة نظر لا يمكن للعالم أجمع أن ينتظر قرونا أخرى قبل أن يتفق أهل الدين الحنيف على ما هو صحيح مما هو زيف دخيل على متن الدين وهوامشه.
قد يجوز الاعتقاد أن بريطانيا ومنذ اعتداءات 7 يوليو 2005 الشهيرة قد قطعت مع سياسة الاحتواء التي اعتمدتها مع “الجماعات”، فسجنت وسلّمت وأبعدت وجوه الجهاد ونجومه في ديارها. وقد يجوز الاعتقاد أن لندن تقطع مع تكتيك استخدام الدين في السياسة الخارجية باتجاه المراجعة التي تطالب بها ماي. على أنه لا عذر يحول دون قيام الاسلام بمراجعة نفسه وتعديل أداء وجوهه وتنقية هوامشه ونصوصه. والمهمة سهلة، ذلك أن تلك الجماعات لا تدعي العمل من أجل تحرير فلسطين وهي غير معنية بتصفية حساب مع الاستعمار القديم ولا شأن لها بإقامة الديمقراطيات وإطلاق الحريات على النحو الذي لطالما أقلق عتاة الحكم كما عتاة الدين.
هؤلاء الارهابيون حانقون ببساطة على “الاسلام الصحيح” الذي تدّعيه المراجع الرسمية للمسلمين، وبالتالي فإن حقيقة الصراع هي داخل هذا الدين. وإذا ما كان الأمر حربا، فحري للمدافعين عن الدين في سماحته ووسطيته واعتداله أن يشهروا أسلحة الحرب وخوض تلك الحرب بالفعل، لا بالقول وكثرة بيانات التنديد.
ميدل ايست أونلاين