ربما تعد الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في إيران في 19 مايو الجاري الأكثر تجاهلاً والأقل اهتماماً من العالم الخارجي لأسباب واعتبارات عدة متنوعة، وأهمها على الإطلاق أن خبرة العالم مع الانتخابات الرئاسية الإيرانية قد تعمقت بحيث باتت هناك قناعة دولية راسخة بشكلية منصب الرئيس في إيران، وأن السلطة الحقيقية والفعلية هي بيد المرشد الأعلى للنظام الإيراني.
كان العالم يتابع الانتخابات الإيرانية في دورات سابقة، لاسيما في حل وجود مرشحين جدليين مثل نجاد أو غيره، ممن يطلقون تصريحات إعلامية صاخبة تثير الجدل اقليمياً ودولياً، ولكن الانتخابات المقبلة تخلو من أي نكهة سياسية بالفعل، ومن الصعب على أي مرشح فيها إطلاق تصريحات عشوائية مثيرة للجدل، لاسيما فيما يخص الملف الأثير لدى الساسة الإيرانيين، وهو إسرائيل، فهناك حذر إيراني واضح في إدارة التصريحات تجاه إسرائيل منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه في يناير الماضي، بالنظر إلى خصوصية إسرائيل ضمن روزنامة توجهات ترامب وسياسته الخارجية، ومن الصعب على إيران أن تجازف في هذا الملف تحديداً، أو تختبر نوايا ترامب من خلاله.
ورغم أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في إيران توصف من قبل بعض المراقبين بأنها انتخابات
حاسمة للاتجاه الذي ستمضي فيه إيران خلال المدى المنظور، فإن الواقع يقول أن السياسة الخارجية الإيرانية بيد المرشد خامنئي، والرئيس وبقية أجهزة الدولة منفذين لتوجهات المرشد وتعليماته في هذا الشأن، وإذا أضفنا إلى ذلك أن المرشد يمارس سلطته وسيطرته على صندوق الانتخابات من خلال إجراءات “فلترة” استباقية ينفذها مجلس صيانة الدستور، الذي لا يسمح بالمرور إلى ممر الانتخابات سوى لمن يثق في ولائهم المطلقة للنظام، فإن أي حديث أو توقعات عن حدوث تغير ما في توجهات إيران حيال أي قضية من القضايا التي تتداخل فيها، يعد نوع من التكهنات غير المبررة!
من الصعب القول بأن شيئاً ما سيتغير في إيران في حال استمر الرئيس حسن ورحاني وانتخب لدورة رئاسية ثانية، أو فاز أحد منافسيه بغض النظر عن التوصيفات والمسميات السياسية التي ثبت للجميع أنها نوع من تبادل الأدوار وخلط الأوراق لا أكثر ولا أقل.
يجادل البعض بأن الرئيس روحاني قد لعب دوراً كبيراً في إتمام الاتفاق مع الغرب حول الملف النووي الإيراني، وأن المرشد خامنئي لم يكن راضياً تماماً عن صيغة الاتفاق، أو أن المرشد قد قبل الاتفاق “على مضض” على شاكلة تجرع الخميني “كأس السم” بقبول قرار وقف إطلاق النار في الحرب مع العراق، عام 1988، وهذا الأمر ليس دقيقاً في مجملهاً، فما حققته إيران من وراء توقيع الاتفاق النووي مع الغرب يفوق بمراحل ما حصل عليه الغرب في هذا الاتفاق، وبالتالي فلا مجال للقول بأن المرشد لم يكن راضياً عن توقيع الاتفاق وقتذاك.
من المعروف أن الملالي يجيدون المناورة السياسية واستغلال الأوراق وتوظيفها لمصالحهم، ولديهم في ذلك رصيد كبير من الخبرات والتجارب، وبالتالي فإن ترجيح كفة أي من مرشحي الرئاسة الإيرانية يعتمد بالدرجة الأولى على ما يدور في عقل المرشد، وهل ينوي مواصلة السياسة التي تتبعها إيران حالياً أم سيتجه إلى تغيير السياسة عبر إحلال رئيس جديد والادعاء بأن له توجه مغاير في السياسة الخارجية الإيرانية؟
قد يقول قائل هنا أن صناديق الاقتراع الإيرانية هي من ستحدد هوية الفائز من بين المتنافسين الست على الفوز بالمنصب، وهذا كلام صحيح ولكن الحشد لمصلحة مرشح معين عبر ميلشيات الحرس الثوري والإعلام الموالي للملالي وأجهزة الدولة الأخرى هو البوصلة الرئيسية لهذه الصناديق.
المرشح الأبرز للرئيس روحاني هو إبراهيم رئيسي، وهو مرشح التيار الذي يوصف بالمحافظ، وشخصية نافذة بين رجال الدين والقضاء في البلاد، وبالتالي فهو رجل دين بالدرجة الأولى، وفوزه ربما يعني مزيداً من التشدد أو رسالة إلى الغرب بأن الملالي باتوا في واجهة السلطة ولا يكتفون بإدارة الأمور من وراء الكواليس.
إيران تعيش مرحلة حساسة في تاريخ ثورتها، فإبراهيم رئيسي، الذي كان يتوقع له على نطاق واسع أن يخلف المرشد علي خامنئي، الذي يعاني المرض منذ سنوات عدة، يخوض الانتخابات الرئاسية، ومن الصعب أن يخسرها ثم ينتخب خليفة للمرشد في حال وفاته، وبالتالي فإن من البديهي أن تنحسر فرص رئيسي في خلافة المرشد حال خسارته في الانتخابات، ولكن فوزه قد يعزز احتمالية خلافته للمرشد سواء عقب انتهاء مدة رئاسته أو عبر آليات أخرى، ما يجعل ترشحه للرئاسة نوع من المضاربة السياسية بمستقبله إلا إذا كان هناك “صفقة” ما يديرها الملالي من وراء الكواليس، وكل شيء يحدث على الساحة السياسية في إيران لا يمضى اعتباطاً بل خاضع لتخطيط الملالي بدقة متناهية، فرئيسي لا يزال صغيراً نسبياً في العمر (نحو 56 عاماً) وكل شيء وارد في هذه الانتخابات، ولكن من الصعب القول بأنها ستقرر مصير الاتفاق النووي، فلو كان بالفعل هناك موقف إيراني مغاير إزاء الاتفاق، فهو قائم ومحدد من الآن بمعرفة المرشد، وما سيتم تحديده هو اختيار المتحدث الرسمي الذي سيتولي “إخراج” الموقف الجديد، بعد أن نجح روحاني في تنفيذ الجزء القائم حتى الآن في الملف النووي الإيراني.
الأرجح أن حدوث أي تغير في موقف الملالي تجاه الاتفاق النووي سيرتبط بموقف الطرف الآخر (الولايات المتحدة تحديداً) من هذا الاتفاق أولاً، ثم نتائج هذا الاتفاق على إيران، فالاتفاق لم يحقق ما كانت منتظراً منه للاقتصاد الإيراني، ربما لأن عوائد الاتفاق المادية تذهب في مجملها لدعم الطموحات التوسعية للملالي في المنطقة العربية. وهناك في الأفق بوادر تحالف سني برعاية أمريكية للتصدي للنفوذ الإيراني الإقليمي، ما يجعل الصدام أمراً متوقعاً بدرجة ما، ولكن المؤكد أن إيران لن تغامر بإنهاء الاتفاق من طرف واحد، ولكن الملالي يحاولون التقاط وفك شفرة الرسائل الواردة إليهم من إدارة ترامب، وبناء عليها سيتم تحديد فرص استمرار روحاني أم الدفع برئيس جديد في مواجهة نبرة العداء الأمريكية المتزايدة حيال إيران.
نقلاً عن إيلاف