تسقط مارين لوبن، لكن ما حققته من أصوات يعتبر تاريخيا بالنسبة لحزب يميني متطرف.
اجتازت فرنسا امتحاناً صعباً حبس أنفاساً في داخل البلد كما في المحيط الاوروبي الكبير. فاز ايمانويل ماكرون في انتخابات الأحد بنسبة مريحة وصلت إلى حوالي 65.9 بالمئة، وسيدخل خلال أسبوع قصر الاليزيه كرئيس للجمهورية الفرنسية. ومهما قيل في الأشهر الأخيرة التي حملت ماكرون لنهائيات السباق في الدورة الأولى، ومهما كثرت التحليلات حول شكل الحملة الانتخابية ومضمونها بينه وبين منافسته مارين لوبن، فإن الرئيس المنتخب يمثل المفاجأة الكبرى لهذه الانتخابات من ألفها إلى يائها.
كشفت الأحزاب الفرنسية التقليدية الكبرى عن مرشحيها في الأشهر الستة الأخيرة التي سبقت الإنتخابات. وحدها مارين لوبن، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، كانت تعد لحملتها منذ خمسة أعوام. لم تلحظها انتخابات عام 2012، ولم تكن تعول عليها كثيراً، لكنها مذاك أضحت وجهاً مسترئساً يعمل كل يوم من أجل اللحظة الرئاسية في مايو 2017. ولا عجب في ذلك من أن يتراجع مرشحا حزب “الجمهوريون” الديغولي والحزب الاشتراكي، اللذان اكتشف الفرنسيون ترشحهما حديثا (مقارنة بلوبن)، فخرج الحزبان العريقان من السباق مقابل تقدم مريح وواثق وأكيد لإبنة مؤسس “الجبهة الوطنية” جان ماري لوبن.
لم يكن مفاجئا أن تتقدم مارين لوبن السباق، لكن المفاجأة التي تليق حكايتها بالروايات الكبرى تتمثل في ظاهرة إيمانويل ماكرون التي لا زالت عصية على افتاء الخبراء وكبار المتخصصين بجمهورية فرنسا الخامسة.
والحال أن مفارق التاريخ تحتاج إلى ردود غير رتيبة لا تقلب الثوابت لكنها تعيد ترتيب قواعد الحكم والحوكمة في البلاد. وعليه يمثل ماكرون هذا الخليط بين التمرد على السائد الذي يحكم فرنسا وفق دستور عام 1958، والتوق إلى منع البلد من الخروج عن قواعد قيمه المتوارثة من روح الثورة الفرنسية عام 1789.
ينتخب الفرنسيون رئيسهم مباشرة بالاقتراع الشعبي العام منذ عام 1962. ولحسابات الرئاسة معايير وقواعد تتعلق بشخص المرشح وطباعه ومهاراته وسمعته ومواهبه بغض النظر عن انتماءاته الحزبية والايديولوجية. ابعد الفرنسيون شارل ديغول عن الحكم عام 1946، أي بعد عام من انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين لم يوافقوا على التخلي عن نظامهم البرلماني ثم أعادوه رئيساً لجمهوريتهم الخامسة ليعودوا ليلفظوه بعد ثورة عام 1968. وتدلل الفرنسيون كثيرا للقبول بفرنسوا ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي، رئيساً، لكنهم أعادوا، حين تهاوت بدائل اليمين، وحملوه رئيسا لفرنسا عام 1981، ولمدة 14 عاماً. وفي حالتي ديغول وميتران، انتخب الفرنسيون كاريزما الزعامة دون كثير تأثر بيمينية هذا ويسارية ذاك.
هوت مارين لوبن نهائيا منذ المناظرة التلفزيونية يوم الأربعاء الماضي. خاضت مرشحة اليمين المتطرف حملة لافتة وبإيقاع مدهش على مدى الشهور الماضية، ثم برعت في الأسبوع الأول الذي تلا الدورة الأولى للانتخابات في 23 أبريل الماضي. لكن بدا أن إعياء في الاسبوع الثاني أوهن ما تعملق وأن لوبن تنكشف يوما بعد آخر وأنها ليست جاهزة، وربما لن تكون أبداً، لرئاسة دولة كبرى مثل فرنسا.
أظهرت لوبن في المناظرة الأخيرة ركاكة حججها وصبيانية سلوكها. أظهرت جهلها بالملفات وشعبوية وصفاتها وميلها للسخرية والتهكم درءا لجفاف معرفي ومواراة لغياب قواعد العقل مقابل النفخ بالغرائز. سقطت لوبن مذاك، حتى في نظر مؤيديها ولدى ناخبيها، وحتى والدها، وبدا أن ايمانويل ماكرون أطاح بها بالضربة القاضية.
خسرت لوبن، لكنها حصلت على 34.1 بالمئة من أصوات الناخبين. يقدر عدد ناخبيها بحوالي 11 مليوناً، فيما صوّت حوالي 5 ملايين لوالدها عام 2002. ستبني لوبن على الشيء مقتضاه محاولة بانجازها اختراق البرلمان المقبل. وأول هذا البناء هو التخلي عن حزب الجبهة الوطنية، من “أجل تشكيل سياسي آخر”، بالتالي التخلي عن هذا الميراث المشين الذي تحمّله، لا شك، مسؤولية اخفاقها.
لم تكن مارين لوبن تبالغ في أحلامها حين كانت ترى أن أبواب الإليزيه قادمة إليها. قبل حوالي العام (23 يونيو الماضي) صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الاوروبي. شكّل الأمر صدمة عالمية لم تتوقعها الاستطلاعات. نجحت الشعبوية البريطانية في رهانها فلماذا لا تراهن لوبن على شعبويتها؟ وقبل حوالي 6 أشهر (8 نوفمبر) انتخب الاميركيون دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. تقدم الرجل بخطاب شعبوي تقدمه أحزاب اليمين المتطرف الصغرى في أوروبا، فأطاح بكل مرشحي الحزب الجمهوري واحدا تلو آخر قبل أن يزيح مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون ويفوز بعقد البيت الابيض لأربع سنوات، فلماذا لا تراهن لوبن على ذلك؟
لكن شيئا ما خان مارين لوبن وقلب حساباتها. لم تخرج فرنسا ضد مارين كما خرجت ضد والدها عام 2002 محذرة من احتماله رئيسا. بدا أن فرنسا عام 2017 لا تشيطن يمينها المتطرف، وبدا أن حجج كثير من مرشحي اليمين كما اليسار تُنهل من نصوص وخطب “الجبهة الوطنية” في مسائل الهجرة والارهاب والاسلام والمسلمين. وبدا أن احتمال فوزها برئاسة البلاد، بالنسبة للكثير من الفرنسيين، ليس كارثة أخلاقية ولن يكون نهاية الكون. ومع ذلك لم تستسغ فرنسا العميقة هذا الخيار فلفظته، وربما أخّرته إلى مواعيد لاحقة.
يحمل إيمانويل ماكرون لفرنسا زاداً أخلاقيا غاب عن لغة السياسة منذ سنوات. وفد الرجل إلى كواليس الحكم من ميدان المصارف، لكن دراسته في الفلسفة حصّنت مواهبه الاقتصادية بخلفية فكرية تعيد للسياسة مادتها العقيدية وليس عدّتها التسويقية.
فحين كان بإمكان ماكرون الغرف من العروض الرائجة للبريكست البريطاني ومواسم دونالد ترامب الأميركية، ذهب إلى برلين وأطل من داخل إحدى جامعات ألمانيا ليطلق رشقات مكثفة ضد الترامبية والانعزالية والانانية والشعبوية والتطرف، وليعلن تمسكه بالمشروع الأوروبي وبإزالة الحواجز بين البشر، وراح بثبات يروّج لقيم لا تمس بالاسلام والمسلمين، وتعيد تخصيب الهجرة بجرعات أخلاقية غابت عن خرائط الأرقام والإحصاءات وجداول الربح والخسارة.
فشلت لوبن في مسعاها الرئاسي. كان انتخابها رئيسة لفرنسا سينعش كافة تيارات التطرف اليميني في أوروبا. كان سيعيد تعويم الشعبوية الأوروبية ليصبح هدف تدمير الاتحاد الاوروبي شاملاً عابراً للحدود. وكانت دول الاتحاد ستعود لرفع حدودها وفرض تأشيراتها، وبالتالي سيعاد الاعتبار للعصبيات القومية بين الدول والعصبيات القومية، وربما الطائفية داخل هذه الدول. كان التاريخ سيعود إلى الوراء حين كانت القارة مسرحاً لحروب لا تنتهي. فشلت لوبن وكأن قدراً أراد إعادة تصويب مسار التاريخ.
تسقط مارين لوبن، لكن ما حققته من أصوات يعتبر تاريخيا بالنسبة لحزب يميني متطرف. وتكمن جسامة الأمر في الحساسية الفرنسية المفرطة حيال كل ما يرتبط بإرث يستلهم النازية وخياراتها. فأن ينال حزب لوبن رضى ثلث الفرنسيين، فذلك مؤشر إلى تحولات مقلقة طرأت على المجتمع الفرنسي أبعدته عن قيم “فرنسا الحرة” التي بشّر بها الجنرال ديغول منذ ندائه الشهير من إذاعة لندن عام 1940، وأبعدته عن قيم اليسار، الشيوعي والاشتراكي، الذي خصّب الوعي الفرنسي بروحية ميّزت البلاد عن امم غربية أخرى.
نعم انتخابات الأحد تاريخية في جدلها ونتائجها. وأهمية ما سينتجه الحدث على راهن ومستقبل البلاد هي رهن إمكانية أن يستمر الرئيس إيمانويل ماكرون في إبهار الفرنسيين كما فعل حين كان مرشحاً.
سيحتاح الرئيس الجديد إلى فريق عمل لحكم فرنسا يجمع بين القطيعة والوصل. القطيعة مع طبقة سياسية خيبت أمل الفرنسيين خلال العقود الماضية، والوصل مع كفاءات سياسية هي بالنهاية نتاج هذه الطبقة السياسية نفسها.
يتحرر الرئيس من براثن اليمين كما براثن اليسار. فالرجل بات رئيسا دون أحزابهم، وبالتالي فهو يملك أن يملي قواعده وشروطه وأسلوب عمله ومروحة خياراته. سيكون عليه خوض الانتخابات التشريعية المقبلة (11 و18يونيو) لتوسيع شرعيته داخل البرلمان وفق خريطة لا تمثل انقلاباً بقدر ما تمثل بداية ورشة إصلاحية كبرى لطالما وعد بها. وسيكون عليه أن يجد تحت قبة البرلمان مكاناً رحباً لتياره السياسي الفتي دون استدراج خصومة كل الطبقة السياسية التقليدية من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها.
يعيد ماكرون فرنسا إلى العالم. يتنفس الاوروبيون الصعداء، فاحتمال لوبن رئيسة كان يعني انتهاء المشروع الاوروبي برمته. فأن تخرج فرنسا من الاتحاد، كما وعدت لوبن، كان سيؤدي إلى اندثار هذا الصرح الكبير. فإذا ما كانت الفكرة فرنسية ألمانية في جذورها وأصولها، فإن ألمانيا وحدها لن تتمكن من الدفاع عن هذا الحصن العريق. ابعد الفرنسيون لوبن عن الاليزيه. امتعض فلاديمير بوتين في الكرملين. بيد أن الأمر أصبح لا يزعج دونالد ترامب في البيت الابيض. سقطت لوبن حين أسقطت جدران البيت الأبيض الترامبية.