«أي متعة عميقة وقوية لا توصف، يشعر بها القائد حين يقف على رأس أوركسترا جيدة» بهذه الجملة يفتتح الموسيقي الروسي تشايكوفسكي الجزء التاسع عشر من مذكراته، تضمنت قراءة نقدية لطبيعة استقبال الروس والعالم أعماله الموسيقية والأوبرالية، وفيها ينتقد السيمفونية الأولى لبرامز، التي وصفها النقاد بأنها امتداد لبيتهوفن، بل واعتبروها هي «عاشرة بيتهوفن»، بدأ يصب عليها جام الغضب، ويشكو: «إنهم في ألمانيا يمتدحون برامز عالياً، وأنا لا أرى جاذبية فيه»، ويعتبر موسيقاه تلك مليئة بالادعاء؛ لأنها عميقة من دون أن تكون كذلك، ومن ثم امتدح تقدم الموسيقيين الفرنسيين في عصره، محملاً تدهور الموسيقى الألمانية لريتشارد فاغنر، ليدخل إلى علاقات الموسيقى ووشائجها مع السياسة والفنون، والفلسفات والأفكار.
تشايكوفسكي يؤرخ للأوبرا والسيمفونيات تبعاً لتطور الطبيعة، وانغماس الموسيقى بمناجاة الأرض والماء، وللأوهام والأحلام، وذلك في ذروة تألقه حينها، واستطاع فتح كوى نقدية على الأعمال الموسيقية متشعباً بموسيقى العصر الباروكي بالقرن السادس عشر، وصولاً إلى الموسيقى الرومانتيكية، وصرعات الأوبرا بكل فنونها وسحرها.
تلك اللمحة تبيّن مستوى المأساوية في الفرق بين التناول العربي للتاريخ الموسيقي وسواه، تؤخذ غالباً باعتبارها ذات انفصال عن المعاني السياسية والمؤثرات الدينية؛ إذ يتم التأريخ للموسيقى من خلال الأفراد وعلاقاتهم، كما فعل جورج الخوري بكتابه عن محمد عبد الوهاب، وأطروحة عدنان خوج عن طلال مداح، وكتاب حازم صاغية عن أم كلثوم، وعشرات الكتب غيرها، الأهم الدخول في عصب التطور الموسيقي ضمن حركة الموسيقى بعلاقاتها السياسية والاجتماعية، وقد أجاد بذلك علي الشوك بدراسته «أسرار الموسيقى»، وكذلك سليم سحاب في بحث نشره حول: «مدرسة الموسيقى والغناء المصرية في القرن التاسع عشر» وفيه بدأ بالتأريخ للموسيقى بمدرسة «الصهبجة» البدائية، ودور أحمد القباني (1786 – 1962) في تأسيسها ونقلها من الأميّة، كما يعرج على الشيخ «المتعلم بالأزهر» محمد عبد الرحيم المسلوب، وهو مؤسس ورائد بالموسيقى المصرية.
سحاب يتحدث عن دور شيخ آخر في تطوّر الموسيقى المصرية، وهو محمد الشلشلاموني، وهو مكتشف سلامة حجازي، عبقري مسرح الغناء العربي، ويوسف المنيلاوي.
القصد، أن التاريخ للموسيقى ضمن ذرواتها الدينية وتجلياتها الاقتصادية والعلمية والسياسية يفتح الآفاق نحو هذا المجال ويخرجه من حصاره بمجرد احتفاليات معينة، الموسيقى عالم يدخل في كل المجالات حتى الفيزيائي منها، وقد استفاد علماء الفيزياء من مصطلحات موسيقية كما في النظرية الكبرى «الأوتار الفائقة» وكان أينشتاين يعتبر الموسيقى شريكة في تسهيل حل ما يستغلق على عالم الفيزياء في دراساته وأبحاثه.
أما شاهر عبيد، فقد قام بعرض وتلخيص بحث «بيتر كروسلي» المتعلق بتاريخ الموسيقى العربية، به يذكّر بدور الموسيقى وعلاقاتها بالطقوس الدينية بين نهري دجلة والفرات قبل ستة آلاف سنة، ويضرب مثلاً بالإنشاد الديني، الذي كان متضمناً الترجيع والجواب لدى السومريين، ولقيت الموسيقى تقدمها لدى البابليين وفي آشور، وربطت تلك الشعوب بين إيقاع الموسيقى وبين تناغم الكون، كما يرصد الموسيقى بالحجاز، في العهود الأولى من الإسلام، وصولاً إلى العصر الأموي، حيث الإمبراطورية الإسلامية أسست للاهتمام الموسيقي، وليس انتهاءً بالعصرين العباسي والأندلسي، وهناك تفجرت الفنون وأخذت كل مساحاتها من الاهتمام، راصداً تطور صناعة «العود العربي» منذ أن كان بطنه جلداً إلى أن اكتسب اسمه من المادة الخشبية التي يصنع منها.
ترتبط كل آلة موسيقية بتاريخٍ من الصراع والتمازج والتشابك، ينقل علي الشوك عن لكورت زاكس في محاضرة له حول تاريخ البيانو: «إن جميع آلاتنا الموسيقية مصدرها الشرق، وقد انتقلت منه إلى أوروبا، بأكثر من طريق، والآلة الوحيدة التي كانت تعتز أوروبا بأنها من مبتكراتها هي آلة البيانو، ولكن ثبت أن هذه الآلة مصدرها أندلسي»!
غير أن الرجوع لكتاب ضخم مهم لماكس فيبر بعنوان: «الأسس العقلانية والسوسيولوجية» نراه في الصفحات منذ 450 وما تلاها يؤرخ للبيانو باعتباره من اختراعات «الرهبان» في بدايات العصر الوسيط؛ إذ يقوم: «الموقع الراسخ الحالي لآلة البيانو على عالمية إمكانية استخدامها بالنسبة إلى الامتلاك المنزلي تقريباً لكل كنوز المراجع المتعلقة بالموسيقى وعلى الوفرة اللا محدودة لمراجعها، وفي النهاية على ما تختص به بوصفها آلة مصاحبة، وآلة تعليم في الوقت ذاته».
ارتبط تاريخ الموسيقى بتحولات الأمم الكبرى، وكذلك بالتغيّرات الفردية بالمجالات الفلسفية، يشير الشوك إلى أن: «نيتشه الذي بدا منبهراً بأوبرا ريتشارد فاغنر انتهى به المطاف مزدرياً لها، مفضّلاً موسيقى البحر المتوسط على الموسيقى الجرمانية الشمالية، ليصبح أكثر التصاقاً بالجانب (الداينوسي) العاطفي، في الموسيقى من جانبها (الأبولي) الذهني، وبآخر حياته فضّل أوبرا (كارمن) لجورج بيزيه، على جميع أوبرات فاغنر»، تلك هي حركة الموسيقى.
الموقع الموسيقي بالمجتمع أكبر من قاعة يحشد إليها البشر، إنها جزء من التكوين الفكري والوجداني والعاطفي والعقلي للإنسان منذ أزمانه الغابرة، ولعل الزاعقين الآن حول التصالح مع الموسيقى يقرأون التاريخ العريق الضارب بجذوره في أدور الموسيقى على التراثات البشرية.
في شبابه كتب عبد الرحمن بدوي رسائل إلى أنثى غامضة أحبها، ومن منازل ريلكه في باريس دوّن لها رسالة كانت خاتمتها: «إن بالفن الخلاص، حتى من جزع المدن الكبرى».
نقلا عن العربیه