بعد غيبة طويلة التقيت بصديقي العزيز الذي كان ناشطاً في إحدى الجمعيات المدنية ذات اتجاهات دينية التي تأسست أثناء الأزمة السياسية والمشاحنات الطائفية بعد الأحداث المؤسفة التي عصفت بالبحرين نتيجة مؤامرة عصابة ولاية الفقيه الفاشلة في فبراير 2011.
لقد دار الحديث بيننا حول البطالة، الغلاء، والفساد. كان يتحدث من صميم قلبه ويشتكي من الأوضاع المتردية، وكان ينتقد شيوخ الدين على مواقفهم السلبية وتخاذلهم، ولأول مرة سمعته يقول بأن شيوخ الدين منافقين ويغضون النظر عن المشاكل الاقتصادية وهموم الناس، وأن العلمانيين يقولون الحقيقة ويتعاملون مع المشاكل والأزمات بالمنطق والعقلانية!؟.
———-
رأي.. “العلمانية هي الحل”
هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
يظن كثيرون خطأ أن العلمانية مذهب ينكر الدين أو نظرية تدعو للإلحاد لكن هذا المصطلح اطلق على غير الإكليريكي أي ليس رجل الدين أو الكاهن، وأيضاً مصطلح العلمانية ليس له علاقة بالعلم لكن بالعالم ذلك لأن اللاهوت المسيحي يعتبر الكاهن ورجل الدين ليسا من العالم لانهما اختارا أن يتفرغا لعبادة الله وخدمته. فباقي البشر يطلق عليهم عالميون لأنهم يشتغلون بالسياسة والاقتصاد وغيرها من الاعمال العالمية وليست الروحية أو الدينية.
وهكذا بالعودة إلى جذور العلمانية ونشأتها التاريخية نجد أنها مذهب منبعه الأصيل في الديانة المسيحية فهو لم يكن في اليهودية فعندما سئل السيد المسيح لمن نعطي الجزية قال اعطوني دينارا ثم رفع الدينار وقال لمن الصورة ولمن الكتابة قالوا لقيصر قال “اعطوا ما لقيصر لقيصر… و ما لله لله”.
وهذه القاعدة تفصل بطبيعتها ومدلولها بين الدين والدولة. ولقد دمر هذه القاعدة الإمبراطور قسطنطين عندما تبنى المسيحية كدين للإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث، ومع الوقت سيطرت الكنيسة على الدولة فكان البابا هو الذي يختار وينصب ويعزل ملوك أوروبا.
وفي القرن الخامس عشر قامت حركة التنوير وقد اعتمدت هذه الحركة على كتب بن رشد الفيلسوف العربي المسلم والتي قام بترجمتها ما دعو المدرسة الرشدية الأوروبية وركزوا على رأيه في العقل وتحليله ورؤيته لفلسفة أرسطو، وكان هذا بالتوازي مع ثورة الإصلاح الديني في أوائل القرن 16 بقيادة مارتن لوثر الذى كتب 95 احتجاجا على سياسة البابا والكنيسة الكاثوليكية وعلقها على بوابة كاتدرائية “وتنبرج” بألمانيا فقام البابا بحرمانه إلا أن أمير إقطاعية أخذه وقام بحمايته فى إقطاعيته، ولولا ذلك لقتل مثله مثل المصلحين السابقين له.
ثم جاء جون كالفن السويسري معاصرا له ، و هو الذي وضع أسس الإصلاح بطريقة منظمة في مجموعة كتب تدعى Calvin institute ، وكان رأي مارتن لوثر المؤسس للإصلاح والذي خرجت منه كل الكنائس البروتستانتية، أن يكون هناك فصل بين الكنيسة والدولة على أن تتبع الكنيسة الدولة أما جون كالفن فقال العكس الدولة تتبع الكنيسة مع تأكيد الفصل بين الاثنين.
لكن أهم ما جاء به الإصلاح الديني مع التنوير هو استخدام العقل وحرية الكنائس المحلية، فلا يوجد بابا أو أسقف يتحكم في الكنائس فقد ألغى الإصلاح الكهنوت والرتب الكنسية، وتحولت الرتب الكنسية إلى وظائف لا أكثر. هكذا يمكننا أن ندرك أن العلمانية جاءت نتيجة الصراع بين المؤسسة الكنسية الكاثوليكية التي كانت تدير شؤون الدنيا والدين وبين مؤسسات غير دينية نمت في ظل التنوير والإصلاح الديني والفكر القومي في أوروبا.
من هنا ندرك أن العلمانية لم تكن دعوة لرفض الأديان لكن محاولة لوضع نظام متكامل للحياة الدنيا وجاءت نتيجة كفاح وبذل دماء لمدة سبعة قرون ضحية استبداد الكنيسة بتعضيد من الأمراء والإقطاع، وتدخلها في الثورة الصناعية وكانت نتيجة الاصلاح فصل الدين عن الدولة وتبني الفكر الليبرالي الرأسمالي كبديل للإقطاع في الاقتصاد (العلمانية).
بعد ذلك ظهرت الفلسفة الماركسية – اللينينية والتي هاجمت الدين “الدين أفيون الشعوب”، ورفضت الدين تماما، وفصلت الدين لا عن الدولة فقط بل عن المجتمع أيضا وهذه الأنظمة كانت ديكتاتورية بطبيعتها بينما قامت العلمانية الغربية التي تفصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع والناس على أنظمة حكم ديمقراطي داخليا، وتوجه استعماري خارجيا على أساس مصالح اقتصادية فرضتها الثورة الصناعية فى أوروبا وحاجتها للمصادر الخام.
وبالعودة إلى منطقتنا العربية نجد أنها تقوم على ركيزتين : الحضارة الإسلامية والعروبة التي تشمل المسلمين وغير المسلمين من يهود وغيرهم. وقد ظهرت العلمانية مع محاولة سيطرة أوروبا على المنطقة التى تهاوت بسبب الدولة العثمانية (الرجل المريض). من هنا نشأت معظم الحركات العلمانية العربية من خلال ثقافة غربية إستعمارية أو ثقافة شيوعية معادية للدين وهكذا نلاحظ أن طرح العلمانية في الشرق الأوسط ارتبط بقيادات سياسية وثقافية ارتبطت بالغرب وحضارته أو قوى ارتبطت بالأنظمة الشيوعية وثقافتها.
وبين هؤلاء وتلك الأقليات الدينية التي خشيت على مصيرها من التطرف الديني. والملاحظ أن تطبيق العلمانية تختلف من دولة لأخرى في أوروبا ففي فرنسا نموذج الفصل الكامل بين الدين والدولة سواء فى الأداء السياسي أو الشخصي، أما في بريطانيا يعتبر أسقف كانتربري رئيس الكنيسة والملكة رئيسة الدولة إلا أن الإثنين مناصب شرفية والنظام السياسي برلماني… أما في أمريكا فالدين متغلغل في الشعب الأمريكي لكن العلمانية أداء سياسي.
أما في منطقتننا فنلاحظ أن النظام العلماني بقيادة بورقيبة في تونس أدى إلى تصاعد التيار الإسلامي.
والنظام العلماني لشاه إيران انتهى بثورة الخميني الإسلامية وتصاعدت التيارات الدينية فى مصر وتركيا والجزائر أما حزب البعث في سوريا والعراق فحدث ولا حرج.
كل هذه التجارب لم تحل مشكلة الإستبداد (الديمقراطية الشكلية) وزادت مشكلة الأقليات تفاقما، وإنهار الاقتصاد، ولم تزل معظم هذه الدول تحكم عسكريا وفي النهاية لم تحقق التقدم والعدالة الاجتماعية.
إذن ما هو الحل؟ منذ منتصف القرن الماضي تعرضت بلادنا لإنقلابات وتيارات دينية فاشلة، لكن ما نحتاجه هو أن نبدأ بتأسيس وتعميق المرجعية الشعبية في الحكم والتشريع من خلال مؤسسات تشريعية منتخبة مع طرح دور العقل في الدين لفهم النصوص وأن نأخذ الأمر بجدية بلا خوف وليس بالطريقة التي تحدث الآن في الإعلام عن طريق هواة لكن بطريقة أكاديمية واضحة المعالم. وأن تطهر المؤسسات ذاتها من التطرف والمتطرفين، ليس هناك طريق آخر.. نحتاج شجاعة وعقلانية ومثابرة والتأكيد على الديمقراطية وتحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين. بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة.
إن تحقيق النهضة العربية يحتاج إلى أربعة عناصر :
1 – قيم ومبادئ دينية تتجاوب مع العصروالمستقبل.
2 – هوية ثقافية حضارية عروبية.
3 – تطبيق الديمقراطية والفصل بين السلطات والعدل وتكافؤ الفرص.
إن كان هذا هكذا فهل لدينا الوقت والجهد والأمانة لخدمة هذا الوطن أم أن مسؤولي الامة ومثقفيها منشغلون بما هو أهم؟
هذه هي العلمانية كما نفهمها وإن كان المصطلح سيء السمعة عند العامة فلنقل العلمانية المؤمنة، واذا قال البعض أن العلمانية لا تصوم ولا تصلي إنها نظرية فلندعوها العلمانية بإذن الله.