عندما يشاهد الإنسان على شاشات محطات التلفزيون العربية الدينية متحدثين ينشرون الفهم الخرافي والفتاوى المتزمتة للدين الإسلامي ويقحمون الدين بصور مضحكة طفولية في مواضيع من مثل التاريخ والعلوم، فانه يدرك مقدار تشويه روح ذلك الدين من جهة ومقدار بلادات فصله كلياً عن أحكام العقل ومتطلبات المنطق.
أحد المتحدثين يدعي بأن زيارة قبر أحد أئمة مذهبه تساوي مليوني حجة، نعم مليوني حجة، وآخر يدعي بأن هتلر قد تلا آية قرآنية في خطبة له، وثالث يؤكد أن كل الاكتشافات العلمية والطبية موجودة في قرآن وأحاديث وفقه هذا الدين، وما على الإنسان إلا أن يبحث وسيجد ما يريد.
سيل من السخافات والبلادات والتقوُل على الله الذي يخدًر الإنسان العربي ويسلبه من كل قدرة على ممارسة العقلانية واستعمال مقاييس المنطق والعلم ويدخله في عوالم الشعوذة والسحر والمعجزات والحكايات الخرافية.
من هنا، وبسبب الازدياد الهائل لمثل تلك المحطات التلفزيونية ولأمثال بعض أولئك المتحدثين بهستيريا وصراخ وحركات بهلوانية، وبسبب انعكاس تلك الثقافة الدينية المتخلفة المتزمنة على مجمل أشكال الثقافة العربية من مثل تحريم البعض للغناء والتصوير والنحت إلخ، وبسبب استعمال تلك الثقافة الدينية استعمالا انتهازيا من قبل الحركات الجهادية العنيفة لتبرير ممارسات من مثل تفجير الانتحاريين أنفسهم في مختلف تجمعات الأبرياء في الأسواق والمساجد والكنائس والمآتم والمدارس بسبب كل ذلك يضطر الإنسان المرة تلو المرة للعودة إلى الحديث عن الأهمية الوجودية العربية القصوى لتحليل ونقد وتنقيح ساحة الأحاديث الموضوعة المنسوبة زوراً وبهتاناً وجهلاً الى رسول الاسلام، وايضاً ساحة الفقه المتخلف المتزمت المنتمي لأزمنة تاريخية غابرة، وبالتالي المتعامل مع واقع مختلف بصورة كلية عن واقع العصر الذي نعيش. وهي عملية يجب أن تهدف إلى أمر أساسي:
إرجاع مركزية الوحي الإلهي القرآني ليحكم بصورة كاملة إبداعية مجددة حقل التراث البشري الإسلامي، قديمه وحديثه.
ومن أجل توضيح ما نقول سنأخذ موضوع العقل والعقلانية لنبرز الفرق الهائل بين التعامل القرآني والتعامل الفقهي إزاء هذا الموضوع الخطير.
فأما القرآن فقد امتلأ بالآيات التي تحض على استعمال أدوات العقل من مثل يتفكرون ويفقهون ويعلمون ويعقلون ويتدبرون، أي أن الوحي اعتبر العقل حاكماً اساسياً في أمور حياة الإنسان الدنيوية، بما فيها فهم رسالة السماء فهماً صحيحاً وتطبيقها بشكل لا يتعارض مع توجيهاتها القيمية والأخلاقية من مثل العدالة والكرامة والأخوة الإنسانية والعفة والرحمة وشتى اشكال الفضيلة.
إلى هنا ولا توجد مشكلة مفتعلة بين الدين والعقل. لكن محنة العقل والعقلانية تبدأ بتدوين ما عرف آنذاك بعلوم السنًة من جهة وعندما يبدأ زج الدين زجاً انتهازياً في أمور السياسة وصراعات الحكم من جهة أخرى.
أما السنًة فكانت اشكاليتها تقع في التراكم الهائل لما اعتبر جزءاً من منطوقها. فالأحاديث النبوية، وهي جزء من السنة، قد بدأت بعدد الخمسمائة عند مالك بن أنس لتنتهي إلى عشرات الآلوف عند هذا الإمام أو ذاك الفقيه.
ما يهمنا هنا هو العدد الهائل من الأحاديث التي نسبت إلى النبي محمد (ص) زوراً وبهتاناً، بل ونسبت إلى بعض الصحابة كذباً، وذلك من أجل مصالح سياسية، أو تبرير لعادات وسلوكيات قبلية، أو إلباس هذه الشخصية أو تلك لباس القدسية، لكن السنة لم تقف عند حدود الأحاديث النبوية تلك، مع كل ما فيها من نقاط تحتاج إلى مراجعة، بل أضيفت إليها أيضاً أقوال الصحابة والتابعين وإجماع العلماء وآليات الاجتهاد، بل وحتى عمل أهل المدينة عند البعض.
فاذا اضيف ما حاول البعض فعله، كما فعل الشافعي على سبيل المثال، من اعتبار السنة النبوية وحياً إلهياً، وبالتالي لا يجوز مسًها بأي صورة من الصور، أدركنا كيف أن الأقوال والآثار سيطرت على الساحة وادعى مروجوها بعدم الحاجة للرأي، أي استعمال العقل، إلا في حدود ضيقة إلى أبعد الحدود.
ليس الهدف هنا الدخول في دهاليز علوم الحديث والفقه المختلف من حولها كثيراً، لكن الهدف هو القول بان التوسُع الهائل في الأقوال التي نسبت إلى الرسول وإلى أصحابه والتابعين وغيرهم من مسميات، والإصرار على إضفاء القدسية على الكثير من تلك الأقوال، جعل استعمال العقل في أهم ساحة ثقافية آنذاك، ساحة الدين، جعل استعماله محدوداً ومشروطاً ومكبلاً، بحيث ساهم في تهميش الوهج العقلاني القرآني من جهة، وفي تهميش علوم الفلسفة القائمة على مناقشات العقل من جهة أخرى، وفي الادعاء بأن الأجوبة عن الأسئلة الدينية، عبر العصور، موجودة في التراث الديني السابق وفي ما قاله السلف الصالح.
في هذا الحقل الثقافي المهم، الذي همش العقل فيه تاريخياً، ويهمش العقل فيه حالياً بصورة فجة كما هو واضح على شاشات المحطات التلفزيونية الدينية، أصبح موضوع تنقيحه، تحليلاً ونقداً وتجاوزاً وتجديداً، من جهة وموضوع العودة إلى إسلام القرآن، الوحي الآمر بالتفكُر والتمعن من خلال السمع والبصر والفؤاد من جهة أخرى أصبح موضوعاً بالغ الأهمية، وبالغ الحاجة لحل إشكالاته، لا من قبل جهود أفراد وإنما من قبل جهود مؤسسات دراسات وبحوث رسمية وأهلية.
إن محنة العقل مع القراءات التاريخية للتراث الإسلامي تمثل اليوم محنة كبرى لا يمكن تجاهلها، بل ولا حتى تأجيلها.
———-
د. علي محمد فخرو
كتاب الموقع – الكتاب
إرسال إلى صديقطباعةPDF
كاتب وطبيب وتربوي قومي من البحرين
أحد مؤسسي نادي العروبة الثقافي في البحرين.
ولد في البحرين عام 1932
التعليم:
** درجة البكالوريوس عام 1954/ من الجامعة الأمريكية في بيروت / لبنان
** درجة طبيب عام 1958 / كلية الطب – الجامعة الأمريكية في بيروت / لبنان
**خبرة الطبيب المتمرن / عام 1958 – 1959 في مستشفى الجامعة بمدينة دالاس – ولاية تكساس – الولايات المتحدة
** خبرة الطبيب المقيم / عام 1959 – 1961 في مستشفى الجامعة في الاباما – الولايات المتحدة
** زمالة في الأمراض الباطنية وأمراض القلب / عام 1963 – 1965 في مستشفيات متعددة وجامعة هارفرد الولايات المتحدة الأمريكية
** شهادة المجلس الأمريكي للطب الداخلي عام 1965
الخلفية المهنية:
1995 حتى الآن: سفير دولة البحرين في فرنسا ، بلجيكا ، إسبانيا ، سويسرا ، سفير دولة البحرين لدى اليونسكو
1982 – 1995: وزير التربية والتعليم بدولة البحرين
1971 – 1982: وزير الصحة بدولة البحرين
1970 – 1971: رئيس الإدارة الصحية بدولة البحرين
1966 – 1970: استشاري طب القلب والمدير المساعد للخدمات الطبية في البحرين
1961 – 1963: استشاري الأمراض الباطنية في البحرين