تقرأ موسكو رسائل الود التي ما برح يرسلها الرئيس ترامب منذ أن كان مرشحا، على أنها حاجة أميركية وليست نزوة شخصية عارضة لرئيس أميركي غريب الأطوار.
بات من الممكن تخيّل حلف بين الولايات المتحدة وروسيا بكل ما تعنيه كلمة حلف من معنى. قد لا تجوز المجازفة في تبني الأمر بصفته مسلّمة مقبلة في المشهد الدولي العام، لكن الإرهاصات الأولى لهذا الاحتمال تشي بإمكانية تطوّر ما هو “إعجاب” يكنّه زعيما البلدين لبعضهما البعض، إلى تطوّر إيجابي في العلاقات بين البلدين قد تعمل عليه مؤسساتهما وتجعله حقيقة تاريخية لافتة.
يتعلق مستقبل هذا الاحتمال بعاملين. الأول يرتبط بمدى استجابة المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية الأميركية لرؤى الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب في هذا الإطار. والثاني متصل بمدى اتساق مصالح الدول الغربية مع ما اكتشف الرئيس الأميركي أنه ترياق لأزمات العالم. وفي أحشاء هذين العاملين مقاومة عضوية تنهل نفورها من كينونة النظام السياسي الغربي في ركائزه الأيديولوجية وأبجدياته الأمنية وقيمه الأساسية.
بالمقابل تبدو روسيا بوتين جاهزة للتقارب مع الولايات المتحدة، بحيث أن مؤسساتها الأمنية والعسكرية والسياسية مدجّنة وفق رؤى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومزاجه اليومي. تقرأ موسكو رسائل الودّ التي ما برح يرسلها الرئيس ترامب منذ أن كان مرشحا، على أنها حاجة أميركية وليست نزوة شخصية عارضة لرئيس أميركي غريب الأطوار. يبدي الحاكم الروسي غضبا من السلوك الغربي داخل حدائق روسيا الخلفية في أوكرانيا وجورجيا، ناهيك عن نشر الدرع الصاروخية في أوروبا ودفع قوات الأطلسي نحو الدول المجاورة المطلة على الأمن الروسي الاستراتيجي مباشرة. لكنه في عهد الرئيس ترامب يُظهر “حنانا” لتواجد القوات الأميركية في أفغانستان مثلا، ويعتبره ضروريا إلى درجة أن الأمور ستؤدي إلى “الانهيار” في حال انسحابها، وفق ما صدر عن وزارة الخارجية الروسية قبل أيام.
في رسائل بوتين المنفتحة على الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، ما يعكس رغبة وجهوزية روسية للشراكة مع الولايات المتحدة، لمعالجة أزمات العالم ومقاربة نظام دولي جديد يعتمد قواعد تختلف عن تلك التي فرضت نفسها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي. لكن رجل الكرملين القوي، المدرك لصعوبة وتعقّد تحقيق انقلاب جذري في المزاج الأميركي، يعزز في هذه الأثناء قواعده في العالم من خلال محاوره في الشرق الأوسط.
يترجّل بوتين في أستانة مكرّسا احتكارا تاما لأي تسوية في سوريا، واضعا تركيا وإيران تحت جناحيه دون أن يلقى مقاومة لا من إسرائيل ولا من أي دولة عربية قريبة أو بعيدة عن الميدان السوري. تحظى روسيا هذه الأيام بإجماع إقليمي لم تحظ به الولايات المتحدة يوما. وسواء كان هذا الإجماع الحالي حول موسكو خيارا أو سببه غياب أي خيار آخر، فإن موسكو تقدم ذلك في حساب أرباحها الذي تطل به على العالم أجمع.
لا تخفي روسيا غبطتها من تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد البريطاني، كما لا تخفي عداءها لهذا الاتحاد ودعمها لكافة القوى والتيارات والأحزاب الأوروبية التي تعمل على دفع بلدانها للتمثّل بنموذج “البريكست” لتفكيك التجمع الأوروبي وتقويضه. لا يختلف خطاب دونالد ترامب. فالرئيس الأميركي الجديد الذي هنّأ البريطانيين، حين كان مرشحا، على خيارهم للخروج من “أوروبا” واستعادة “استقلال” بلادهم، توقّع، حين أصبح رئيسا، أن تقوم دول أخرى باتخاذ قرار “شجاع” ومغادرة التجمع الأوروبي الكبير.
يشترك بوتين وترامب في التصويب على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل. في بال الرجلين أن القضاء على “أوروبا” يحتاج إلى إعدام الفكرة الأوروبية كما تراها وتروّج لها ألمانيا، وكما ترعاها وتدافع عنها الزعيمة الألمانية في برلين. حول سيديْ الكرملين والبيت الأبيض تتجمع جوقة من شخصيات وأحزاب وتيارات أوروبية يمينية متطرّفة ينهلون مياههم من ينابيع النازية العتيقة، ويستهدفون، أيا كانت البلدان التي ينتمون إليها، برلين وحاكمتها بحملات مستعرة تحمّلها مسؤولية قضم بروكسل لسيادة الدول الأعضاء واستقلالها، كما “كارثة” تدفق اللاجئين إلى داخل القارة العجوز.
بنى ترامب حملته الانتخابية على الأفكار التي سوّقت لـ“البريكست” البريطاني: مكافحة اللاجئين والحدود المفتوحة. وفيما ينشغل خطاب الرئيس الأميركي الجديد بورش بناء جدار على حدود المكسيك ومنع دخول اللاجئين ووضع آليات لدخول المسلمين، كما الدفاع عن “أميركا أولا” ومغادرة العولمة التجارية والاتجاه نحو انعزالية عسكرية تقتضي مراجعة العلاقة مع “الأطلسي”، فإن الرئيس الروسي يراقب مبتسما نزوح العالم أمامه نحو تصديع كل البنى التي رفعت من شأن الليبرالية الرأسمالية منذ الحرب العالمية الثانية وقوّضت نموذج الاتحاد السوفييتي وإمبراطوريته في العالم. فانهيار الاتحاد الأوروبي والعودة إلى الدولة-الأمة في حدودها الأولى وارتفاع جدران الأنانية بين الكيانات وانتعاش العصبيات القومية وتصاعد الحساسيات بينها، تسقط التضامن الغربي وتدفع بالدول الغربية إلى اتباع سياسات خارجية لا تنتمي إلى أي قاعدة جماعية شبه أيديولوجية، بحيث أن العلاقة بين واشنطن وموسكو أو باريس وموسكو (وفق رؤى المرشحين فرنسوا فيون ومارين لوبن) تصبح مثلها مثل العلاقة بين موسكو وغروزني الشيشانية مثلا.
ولئن أصبحت فكرة التمدد الروسي في العالم قابلة للنقاش، فإنها في منطقة الشرق الأوسط أضحت حقيقة، وربما أمرا مطلوبا، إذا ما استمر انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة. باتت رؤى واشنطن في مكافحة الإرهاب متطابقة مع رؤى موسكو، لجهة أن يشمل ذلك مواجهة كل تيارات الإسلام السياسي. سبق لمستشاري ترامب، زمن الترشح، أن أثاروا مسألة عزم الرئيس الجديد على إدراج جماعة الإخوان المسلمين على لائحة الإرهاب، وهو أمر أكده وزير الخارجية الحالي ريكس تيليرسون في جلسة استماع أمام الكونغرس. على هذا تتناغم مقاربات واشنطن وموسكو في المنطقة على نحو يجعل من تحالفاتهما مع دول المنطقة مشتركة متكاملة، لا تخضع لتنافس تقليدي قديم يقاربه أهل المنطقة بحذر. وعليه أيضا تصبح علاقة تركيا ومصر والملكيات العربية ودول عربية أخرى بروسيا مطلوبة أو مدرجة ضمن سياق التكامل الأميركي الروسي العتيد.
لكن في ذلك السيناريو ما يعاكس الحركة التقليدية للتاريخ. فقد يكون في تخيّل التموضع الدولي الجديد تبسيط متأثر بالفكرة المسطحة التي يروّجها الرئيس الأميركي الجديد عن العالم وإدارة شؤونه. كما أن في ذلك السيناريو إغفال للذاكرة بحيث أن التاريخ يبدأ من لحظة ولوج ترامب باب البيت الأبيض دون أي وعي لتراكم تاريخي سابق ولتجارب الأمم السابقة. ثم إن في إطلالة ترامب على العالم عبق توراتي يضع خطا محددا للصالح والطالح، وما هو خير وما هو شر، وربما أيضا، ما هو مربح وما هو خاسر في منطق الأعمال والصفقات.
وقد يختزل البعض مسائل التاريخ في منطق الصفقات التي يبرمها رجل أعمال، فمنها ما يخيب ومنها ما يصيب. صحيح أن ترامب نجح في إقناع الناخبين بأنه الأفضل لأن كل بديل عداه سيء، إلا أن الرجل الذي يترأس أكبر دولة في العالم، سيكتشف بعد أن ينتهي من توقيع كل المراسيم التنفيذية التي تطابق وعوده، بأن “أميركا العميقة” ستتيح له توقيع أي مراسيم تلغيها مراسيم أخرى، وأنها لن تسمح له بالمسّ بما هو من جوهر الوجود الأميركي في الداخل والخارج. فإذا ما ذهبت مؤسسات البلاد الأمنية والعسكرية والسياسية (الكونغرس خصوصا) مذهب ترامب في التعاون مع روسيا، فإن ذلك لن يكون إلا في الميادين المسموحة في العالم وضمن ما يؤمّن مصلحة الولايات المتحدة واستراتيجيتها. فإذا ما أتيح لبوتين التقدم في سوريا وربما في ليبيا، أو نسج علاقات خاصة مع مصر والأردن، أو التدخل في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، فذلك يبقى متّسقا مع خيارات واشنطن وليس مجابها لها.
أمام الولايات المتحدة أولوية تنبّه لها باراك أوباما تكمن في مواجهة “الخطر الأصفر” القادم من الصين. سنكتشف يوما أن ترامب المعجب ببوتين والداعي إلى التعاون والانفتاح على بلاده لم ينطق عن هوى، بل كان لسان تيار داخل “أميركا العميقة” يريد وضع طموحات موسكو ضمن استراتيجيات واشنطن في هذا الصدد. وقد نكتشف يوما أن بوتين نفسه يعرف ذلك.