موسكو تدرك أن لا ثقة يمكن التعويل عليها في التعامل مع رئاسة دونالد ترامب، فهي تتأمل بقلق صعود وجوه تلك الإدارة العتيدة من خلفيات محافظة لا يمكن أن تكن لروسيا أي ود دعا إليه ترامب، حين خاض غمار الحملة الانتخابية.
ستكتشف موسكو أن سقوط مدينة حلب المحتمل كاملة بيد النظام السوري قد لا يشكّل إنجازا مفصليا في تاريخ الصراع السوري المنفجر منذ عام 2011. وستكتشف موسكو أن اندفاعها لفرض أمر واقع في حلب يعيد المدينة إلى داخل حدود “سوريا المفيدة”، لن يكون إلا تفصيلا عسكريا في غابة التفاصيل العسكرية المتشابكة داخل الخارطة العامة للبلاد. فإذا كانت الحرب هي شكلٌ من أشكال السياسة، فإن أي إنجاز عسكري ميداني، مهمَا كان مهمّا، يبقى عاقرا إذا لم تخصّبه مكتسبات سياسية ولم تباركه تسويات معيّنة.
في آليات العمل وفق منطق “سوريا المفيدة” إقرارٌ بأن الورش العسكرية التي يخوضها النظام والميليشيات التابعة لإيران، بمباركة جوية روسية، لا تعمل إلا ضمن عقلية هدفها النهائي تقسيم البلاد بين “المفيد” وغير المفيد. بمعنى آخر، فإن موسكو تلهثُ للإطلالة على العالم، وعلى إدارة الرئيس دونالد ترامب المقبلة خاصة، من خلال إمساكها بجزء من سوريا، تماما كما أمر إمساكها بجزء من أوكرانيا. وبهذا المعنى أيضا سيظهر الكرملين، الموعود بسلوك ودّي قادم من واشنطن في ظل الإدارة الجديدة، بأن جبروته العسكري لم يستطع إلا تقاسم جزء من سوريا مع قوات النظام والقوات الإيرانية ومجموعة ميليشيات هي أشبه بالعصابات في أجنداتها وسلوكها وأهدافها الأخيرة، ناهيك عن الوجود التركي الجديد شمال البلاد. فإذا ما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما يوما “أننا لن نكون غطاء جويا للميليشيات المذهبية في العراق”، فإن كل ما فعله سيّد الكرملين هو تأمين غطاء جوي لهذا النوع من الميليشيات في سوريا.
سيكتشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد ضجيج حلب أن قواه العسكرية التي يُفترض أنها كانت معدّة تاريخياً لمقارعة دول عظمى في قوتها وتسليحها وقدراتها التدميرية، استطاعت تحقيق منجزه الكبير -بعد أكثر من عام- ضد جماعات مقاتلة متواضعة التسليح منعدمة التغطية الجوية والتكنولوجية التي تمتلكها الجيوش الكبرى. وسيكتشف زعيم الكرملين أن ابتسامته التي يثيرها الإنجاز الحلبي تثير سخرية جنرالات داخل الحلف الأطلسي في بروكسل وأروقة البنتاغون في واشنطن.
لم يعد نظام دمشق قادرا على استعادة “أملاكه” على كامل التراب السوري. فلولا التدخل الروسي الذي توسّله الجنرال قاسم سليماني في موسكو لسقط هذا النظام. وبالرغم من “الانتصار” الحلبي المفترض، فإن أيّ حرد لسلاح الجو الروسي لعدة أيام، كذلك الذي حدث مرات عديدة قبل ذلك، كفيل باستعادة المعارضة لشرق حلب وكل حلب وما بعد بعد حلب. وبالتالي فإن موسكو تشعر بأنها أصبحت أسيرة انتصارها، وأن المحافظة على المُنجز يستدعي تحريكا مستمرا لترسانة روسيا وأسطولها البحري، بما يذكرها بالكوابيس الأفغانية. والأنكى أن كل هذا الانتصار آيل للاندثار، إذا لم يحظ بمباركة غربية بقيادة واشنطن تقرّ لموسكو غنيمتها السورية.
لا يبدو أن المزاج الأميركي ذاهب نحو المصادقة على الأمر الواقع الروسي. يشتدّ الجدل داخل الولايات المتحدة على أن مصلحة الولايات المتحدة تكمن، كما بشّر دونالد ترامب وكما نادى باراك أوباما، بتركيز الجهد للقضاء على تنظيم داعش. لكن الجديد أن صنّاع السياسة والأمن الأميركيين، يرفدهم في ذلك المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، يرون أن لا قضاء على الإرهاب في سوريا دون تسوية سياسية تحرم الإرهاب من بيئة حاضنة. وفي الجدل من يذهب مذهب الأوروبيين في القول أن لا حلّ في سوريا إلا بصيغة تزيح بشار الأسد عن رأس السلطة في دمشق. حتى أن دي ميستورا فاجأ البرلمان الأوروبي بالحديث عن مقاربة للمشكلة تأخذ بعين الاعتبار تجربته في العراق “لقد كنت في العراق عندما أسس الزرقاوي القاعدة هناك، ما حصل هو استقطاب الجماعات السنّية هناك. في سوريا الأمر أكثر أهمّية، والطريقة الوحيدة للتأكد من هزيمة تنظيم داعش بعد خسارته الرقة هي حصول شكل جديد من التفاهم السياسي في سوريا”.
تنطلق النظريات الأميركية ممّا هو مصلحة أميركية صرفة. ترى أوساط دبلوماسية أميركية أن المقاربة الروسية للأزمة السورية ذاهبة نحو التقسيم، فيما يجب على المقاربة الأميركية أن تتأسس على مسلّمة وحدة البلاد الكاملة كما يقرها القرار الأممي رقم 2254. في ذلك أن واشنطن، رغم الآثام التي ارتكبتها إدارة أوباما، مازالت تملك أوراقا كثيرة للخروج بحلّ سوري كامل. تمتلك واشنطن علاقات مع المعارضة السورية، كما تمتلكها مع أكراد “قوات سوريا الديمقراطية”، كما مع تركيا (رغم فتور العلاقات)، كما مع إيران (من خلال إمساكها بمصير الاتفاق النووي) كما مع دول الخليج التي (رغم حردها من إدارة أوباما) مازالت تعوّل على علاقات صلبة مع الولايات المتحدة.
تدرك موسكو أن لا ثقة يمكن التعويل عليها في التعامل مع رئاسة دونالد ترامب، فهي تتأمل بقلق صعود وجوه تلك الإدارة العتيدة من خلفيات محافظة لا يمكن أن تكنّ لروسيا، في وجدانها وذاكرتها وذائقتها، أيّ ودّ دعا إليه ترامب حين خاض غمار الحملة الانتخابية. بدا أن تراجع ترامب عن وعوده بملفات تسجيل المسلمين في بلاده، أو حتى منعهم من اختراق حدودها، كما تراجعه عن نسف قانون “أوباما كير” للرعاية الصحية، كما إبداله مشروع جدار المكسيك بسياج هو موجود أصلا، سيقود كل ذلك حتما إلى قلب ترامب لصفحة وعوده الودّية مع فلاديمير بوتين، خصوصا أن ما تنشره المنابر الأميركية هذه الأيام بلسان شخصيات شهيرة في ميادين الدبلوماسية والأمن والعسكر والبحث الاستراتيجي يوحي بالبيئة العدائية المقبلة إزاء روسيا وزعيمها.
تعلن أوساط موسكو أنها على تواصل مع الفريق المحيط بالرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، بما في ذلك نجله الأكبر. وفي محصلة التواصل وفي نتائج التأمل الروسي اليومي لمواقف وأعراض إدارة الرئيس المقبل، يخرج ميخائيل بوغدانوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط، بإعلان عن عزم بلاده حسم وضع حلب قبل نهاية العام. بكلمة أخرى تهرول موسكو لإخضاع المدينة قبل تنصيب دونالد ترامب رئيسا رسميا للولايات المتحدة في 20 يناير المقبـل. فما الذي يقلق روسيـا إلى درجة وضع الأمر الواقع بين أحضان سيّد البيت الأبيض الجديد الذي يعِدُ بالودّ والوئام؟
الجواب أن لا وئام قادما من واشنطن لمباركة العسكريتاريا التي يعتمدها الرئيس بوتين في إطلالته على العالم. لا مصلحة أميركية، على ما يتسرّب من التقارير القريبة من البنتاغون والسي آي إيه ومجموع أجهزة المخابرات الأخرى، في الاستسلام إلى الخيارات الروسية في سوريا وأوكرانيا، بما في ذلك الجولات الاستعراضية للأسطول الروسي في بحار العالم. تعلم روسيا أن حراكها في شرق أوكرانيا وضمّها لشبه جزيرة القرم، على جسامة ذلك، يبقى شأنا إقليميا داخل حدائق موسكو الخلفية، إلا أن ورشتها في سوريا هي التي تأخذ بعدا عالميا تناكف من خلالها دول العالم الغربي. وعليه فإن أيّ تقويض لطموحات بوتين الكونية سيكون في سوريا.
تجتمع مادلين أولبرايت وستيفن هادلي ودنيس روس وآندرو تابلر وإيلان غولدنبرغ وأسماء أخرى لإنتاج تقارير توصي بالأعراض الأولى المطلوبة للسياسة الخارجية الأميركية المقبلة. قد يقول قائل إن كل ما يكتب لا يعدو عن كونه نصوصا لا ترقى إلى مستوى الاستراتيجيات التي ستُعتمد، لكن موسكو تدرك أن في مضمون التوصيات إرهاصات بيئة عامة تتوق إلى الخروج من خيمة أوباما إلى الفضاء الأميركي التقليدي القديم. وفي تحليل فوز دونالد ترامب ما بات اعترافا بأن في الأمر ردّ فعل نافرا على سنوات أوباما، وفي المقاربات الجديدة للسياسة الخارجية الأميركية ما سيكون أيضا ردّ فعل عكسيا على سنوات أوباما التي شوّهت صورة القوة العزيزة على الوجدان الجمعي الأميركي. بوتين يعرف ذلك، وهو يهرول لحسم حلب قبل أن تستيقظ أميركا.