نحاول في هذه الدراسة الرد على التساؤلات التي ثارت بمجرد الإعلان في فيينا عن توصل مجموعة 5+1 وحكومة طهران إلى صفقة حول ملف الأخيرة النووي المثير للجدل في الرابع عشر من يوليو/ تموز 2015 ، وذلك من بعد جولات ماراثونية من المفاوضات الصعبة التي استغرقت زمنا طويلا، استخدم خلالها كلا الطرفين كل اسلحتهما الدبلوماسية، بل كل ما كان تحت ايديهما من أوراق ضغط.
وقبل أنْ نستعرض تلك الأسئلة، لابد من التأكيد على أن طهران عملت كل ما في وسعها للوصول إلى الصفقة المذكورة التي اعتبرتها مسألة حياة أو موت، بالنسبة لها، لأسباب كثيرة منها:
• أنها تعني اعترافا ضمنيا من المجتمع الدولي بمكانتها كقوة اقليمية لا يمكن تجاهلها في موازين القوى، ناهيك عن أنها تكرس عضويتها في النادي النووي مع الكبار، وتحفظ لها قدراتها العلمية والتقنية، وتمنحها حق ممارسة التخصيب بنسبة معينة.
• أنها ـ بالنسبة لها ـ طوق نجاة للتغلب على مشاكلها الاقتصادية المتفاقمة جراء عقود من العقوبات الاقتصادية الدولية التي فـُرضت عليها من قبل مجلس الأمن في 26 ديسمبر 2006 بموجب القرار رقم 1737 جراء إصرارها على تطوير برامجها النووية بمعزل عن قواعد واشتراطات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خصوصا وأن الصفقة تضمن إفراج واشنطون والغرب عن نحو 150 مليار دولار من الاموال الايرانية المجمدة في المصارف الغربية، وتعيد إيران إلى اسواق النفط العالمية من أوسع الأبواب.
• أنها تعطي حكومة الرئيس روحاني الذي أسبغ على نفسه صفة الرئيس الإصلاحي، ووعد شعبه في الانتخابات الرئاسية الماضية بمستقبل أفضل، بعض المصداقية التي قد تنفعه جماهيريا للبقاء في السلطة فترة ثانية.
• أنها تفتح بابا لطهران كي تصلح علاقاتها مع الولايات المتحدة، خصوصا مع تلهف إدارة الرئيس باراك أوباما على تغيير تحالفات بلاده الإقليمية في منطقة الخليج العربي، وفق سياسة مفادها الرهان على الاسلام الشيعي في مقابل الاسلام السني السلفي المتهم بالإرهاب، وإنْ إدعتْ واشنطون خلاف ذلك في اللقاءات الدبلوماسية والبيانات المشتركة. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير أن أوباما وصف الإتفاقية بالحدث التاريخي، فيما رد عليه نظيره الايراني بالقول أنها حدث يفتح باب الثقة بيننا تدريجيا.
ومن هنا لم يكن غريبا أنْ يسعى الرئيس الايراني حسن روحاني وطاقمه الدبلوماسي، بقيادة وزير خارجيته محمد جواد ظريف، منذ اليوم الأول لوصوله إلى سدة الرئاسة في طهران إلى فتح قنوات إتصال سرية مع الشيطان الأكبر (الولايات المتحدة)، وتفعيل القناة الموازية المتمثلة في الوسيط العماني من أجل إتمام الصفقة المذكورة. وعلى الرغم مما خيّم على الاتصالات والمفاوضات السرية من أجواء البطء والتشاؤم والضجر والخوف من الفشل، فإنها استمرت وتواصلت دون كلل أو ملل.
وبالمثل لم يكن غريبا أنْ يبادل الأمريكيون نظراءهم الايرانيين الحرص على إنجاح المفاوضات وإتمام الصفقة، تدفعهم الرغبة والحرص والاصرار على تحقيق إنجاز يتيم لرئيسهم باراك أوباما كي يختتم به عهده في البيت الأبيض الذي تميز بإخفاقات في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، لاسيما في سوريا والعراق وأوكرانيا. ومن المفيد أن نشير هنا إلى أنّ المفاوض الامريكي استثمر في مهمته الشاقة هذه جهود حلفائه الغربيين، إضافة إلى جهود غريميه الروسي والصيني، اللذين أقنعتهما واشنطون بمكاسب إقتصادية سريعة في حال إتمام الصفقة، وبالتالي رفع العقوبات عن طهران، على الرغم من حقيقة أن رفع العقوبات عن إيران وعودتها بالتبعية إلى اسواق النفط ستؤدي إلى انهيارات في أسعار الطاقة وبالتالي ستكون لها آثار سلبية على الإقتصاد الروسي. وإذا كانت المكاسب التي سيجنيها الروس من الاتفاقية تتمثل في بيع أسلحتهم المتطورة لإيران، فهاهي واشنطون تعترض وتهاجم الصفقة التي تم توقيعها مؤخرا بين موسكو وطهران حول تسليم الأولى للثانية المنظومة الدفاعية (إس 300).
قلنا أنّ أسئلة كثيرة طـُرحت حول تداعيات صفقة فيينا على موازين القوى في منطقة الخليج الحيوية لإقتصاديات العالم، وعلى شكل العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، وعلى السياسات الخارجية للجمهورية الإسلامية في المستقبل، ولاسيما سياساتها إزاء بؤر الأزمات في اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وعلى الوضع العام والصراع على السلطة والنفوذ بين من يـُسمون بـ”الإصلاحيين” و”المحافظين” داخل الدولة الإيرانية.
الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، دافعت عن الصفقة بمبررات يمكن دحضها بسهولة. من المبررات التي ساقتها إدارة أوباما كي تقنع المشرعين والمواطنين الأمريكيين، إضافة إلى اللوبي الإسرائيلي القوي، بفوائد الصفقة: أنها تساهم في خلو منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وأنها تعطي فرصة استثنائية لطهران لتطوير إقتصادتها وبالتالي توفير حياة أفضل لشعبها، وأنها ستـُحّول حكومة طهران من حكومة مارقة ومتمردة على الشرعية الدولية إلى حكومة متعاونة ومنخرطة ومنسجمة مع قوانين المجتمع الدولي ومعايير حقوق الإنسان، وأنها ستتيح الفرصة لإيران كي تصبح قوة إقليمية لا غنى عنها في صياغة حاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط، ، بل وربما إعتمادها كشريك في بناء التوافقات المستقبلية حول مجموعة من القضايا الإقليمية والدولية، كمكافحة الإرهاب، وتحقيق السلام بين الإسرائلييين والفلسطينيين، وتوحيد الجهود في إخماد الحروب والتوترات المشتعلة في مناطق شرق اوسطية لإيران نفوذ وأصابع فيها.
وقد ثبت سريعا في الفترة التالية لتوقيع صفقة فيينا إنّ المبررات الأمريكية لم تكن سوى أمنيات وأوهام. ذلك أنّ التدخلات الإيرانية في دول مجلس التعاون الخليجي عبر شبكاتها الارهابية تضاعفت بدليل الحوادث الإجرامية التي وقعت في البحرين والكويت والسعودية، والتي تبين أن المتورطين فيها تم تجنيدهم وتدريبهم على أيدي جماعات مرتبطة بالحرس الثوري الايراني في لبنان والعراق وسوريا، دعك من لجوء الإيرانيين إلى تطوير حقل الدرة النفطي الكويتي المتنازع عليه دون التشاور مع الكويتيين. كما وأن مواقف الأنظمة والجماعات التي تعمل إيران على حمايتها ودعمها أوإستمرارية نفوذها وتغولها زادت تصلبا ورعونة. وآية ذلك إزديار المجازر التي يرتكبها نظام الأسد في سوريا، وإستمرار مشاغبات وجرائم الحوثيين في اليمن، وبقاء حزب الله اللبناني عقبة في طريق إنتخاب رئيس لكل لبنان. أما في الداخل الإيراني فقد استمرت الأوضاع على حالها، انتهاكا لحقوق الانسان وإزديادا لحالات الإعدام وتكميما للأفواه، وإبقاء للرموز الإصلاحية في المعتقلات الرهيبة، وتمتينا للسلطة المطلقة للولي الفقيه.
إلى ذلك، ثبت أنّ سماح القوى الكبرى لإيران بامتلاك قدرات نووية تسبب في مخاوف قوى إقليمية عدة في منطقة الخليج، نجد تجلياتها في مسارعة عدد منها إلى التوقيع على إتفاقيات مع دول كروسيا الاتحادية وفرنسا لإنشاء مفاعلات نووية على اراضيها للأغراض السلمية. وقد حاولت واشنطون بسرعة التخفيف من آثار هذه التطورات بتحذير حلفائها الخليجيين من نتائج عقد صفقات نووية، قائلة أنها سوف تتسبب في توتر العلاقات العسكرية والأمنية الخليجية ــ الإمريكية.
وقد خذل الإيرانيون الرئيس أوباما الذي كان قد قال في تصريح له ان إيران قد تتغير، مشيرا إلى أن بلاده سوف تكون في موضع أقوى لتنفيذ ذلك، إذا ما تم الانتهاء تماما من ملف القضية النووية، ومضيفا: “إذا استطعنا تنفيذ ذلك، سوف يمكن لإيران، بعد الاستفادة من مكاسب تخفيف العقوبات الدولية، البدء في التركيز على الاقتصاد وعلى شعبها. وتبدأ الاستثمارات في التدفق، وتبدأ الدولة في الانفتاح على العالم”. إذ لم تكد الأحبار التي كتبت بها إتفاقية فيينا تجف إلا وكان المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي يبعث برسالة إلى الرئيس روحاني، يأمره فيها بتخصيص 5%، على الأقل، من ميزانية البلاد الدفاعية “لزيادة القدرات الدفاعية على مستوى القوة الإقليمية، من أجل تحقيق المصالح والأمن القومي”. وبالتزامن تقريبا مع هذا القرار راحت إيران تقدم ضماناً ائتمانياً لنظام بشار الأسد في سورية، لتخفيف الضغوط الاقتصادية على نظامه المنهمك في سفك دماء شعبه وتدمير بلده. فإذا كان كل هذا قد حدث قبل تحرير مليارات ايران المجمدة في الغرب، فماذا عساه يحدث بعد تحريرها على صعيد دعم الأنظمة والجماعات المارقة العاملة لحساب الأجندات والأطماع الفارسية في الشرق الأوسط.
وهذا يعني ببساطة إن المخاوف التي أبدتها دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديدا المملكة العربية السعودية، من التداعيات السلبية لصفقة فيينا على الأمن والإستقرار في منطقة الخليج وإمتداداتها، خصوصا مع وجود بنود سرية في الصفقة لم يكشف النقاب عنها، وقد تشمل إطلاق يد إيران في المنطقة مقابل تكبيل يد الرياض عسكريا، كانت مخاوف مبررة وفي محلها، خصوصا إذا ما أخذنا في الإعتبار قدرة إيران على إستخدام نفوذها المذهبي في العراق وسوريا واليمن والكويت والبحرين للإضرار بالمصالح السعودية، وإنشغال بلد عربي كبير حليف للسعودية وشريكاتها الخليجيات مثل مصر في مشاكلها الداخلية.
والجدير بالذكر في هذا المقام أن الرياض كانت قد حذرت مبكرا من النتائج الوخيمة لأي صفقة غير صارمة مع طهران حول ملف الأخيرة النووي على الأمن والإستقرار في المنطقة. حدث ذلك في عهد المغفور له الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز الذي يُروى أنه أبلغ المبعوث الأمريكي الزائر “دينيس روس” رسالة واضحة مفادها أن السياسة الأمريكية تجاه إيران مبنية على آمال ورغبات وليس على أسس واقعية، بل حذره من النتائج السيئة للطريقة الأوبامية في التعاطي مع شئون المنطقة، وذلك في إشارة إلى تلهف الرئيس أوباما لرؤية إيران وقد كسرت عزلتها وصارت قوة إقليمية ناجحة وشريكة للولايات المتحدة. ومثل هذا التلهف لم يكن مجرد فرضية، وإنما كان ضمن استراتيجية وعقيدة تبناها أوباما منذ اليوم الأول لجلوسه على المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. حيث يشير مايكل دوران كبير الباحثين في معهد هيدسون للإبحاث، الذي عمل سابقا نائبا لمساعد وزير الدفاع الأمريكي ومديرا لمجلس الأمن القومي في دراسة مطولة إلى أن إعادة تأهيل إيران للقيام بدور في الشرق الأوسط والعالم كشريك وحليف للولايات المتحدة في قضايا إستقرار العراق وهزيمة الجماعات الجهادية السنية مسألة إحتلت مكانا بارزا في فكر أوباما الإستراتيجي. أما الأساس الذي يستند إليه الرئيس الأمريكي في تقاربه مع إيران فهو ــ بحسب كلام دوران ــ أن طهران وواشنطون كانا حليفين طبيعيين، وأن واشنطون هي المسئولة عن تحول التحالف إلى حالة عداء خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالتالي فإنْ مدت واشنطون اليد إلى طهران فإن الأخيرة سوف ترد التحية بأفضل منها، وليذهب الحلفاء التقليديون الآخرون في المنطقة إلى الجحيم، لأنهم لا يملكون ما تملكه إيران من “مواهب غير معقولة وموارد ومهارات محلية”. والجملة الموجودة بين مزدوجين قالها أوباما علنا في تصريح له مؤخرا.
ما لا يفهمه الأمريكيون، أو يفهمونه جيدا لكنهم يغضون الطرف عنه لإسبابهم الخاصة، أو بتأثير من اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة، او لأسباب تتعلق بما يكنه أوباما من إعجاب وولع شديد بإيران كما سبق بيانه أن طهران لن تتخل عن أحلامها في إمتلاك السلاح النووي. وإذا كان هذا الحلم قديما ويعود إلى زمن الشاه محمد رضا بهلوي الذي يُعزى إليه وضع اللبنات الأولى للمشروع النووي الإيراني بمساعدة أمريكية في خمسينات القرن الماضي، من أجل إثبات تفوق العرق الآري الفارسي وتكريس دوره كشرطي في الخليج يحمي المصالح الامريكية والغربية في المنطقة، فإن خلفاءه المعممين يستميتون من أجل ذلك لأسباب أخرى أخطر ذات صلة بعقيدتهم المذهبية من تلك التي أفصح عنها علنا الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في أكثر من مناسبة. فالنظام الايراني الفقهي الحالي يسعى إلى خلق بيئة مواتية ترفرف عليها أعلام النصر والتفوق لإستقبال “المهدي المنتظر”، وبالتالي فإن ما يحقق له ذلك ليس سوى سلاح يهدد به دول الجوار السنية، وفي الوقت نفسه يبعث نشوة النصر في قلوب الانصار والتابعين من شيعة دول المنطقة وإمتداداتها في الشرق الأوسط. وهكذا فإن الإتفاقية التي وقعت عليها طهران في فيينا مع مجموعة 5+1 ليست سوى وسيلة لخداع المجتمع الدولي وكسب الوقت وتأجيل العقوبات إلى حين مثلما دأبتْ على ذلك طوال السنوات التالية لإنتصار ما يسمى بـ “الثورة الإسلامية” في عام 1979.
وفي هذا السياق يجدر بنا التذكير بأن برنامج إيران النووي كان قد قطع شوطا كبيرا وقت الإطاحة بالشاه، لكن الأخير بدا في فترة من الفترات غير مكترث بتطويره، ربما كنتيجة لقناعته بأن إستخدام السلاح النووي أو مجرد التلويح باستخدامه له تبعات وخيمة، وبالتالي فهو مجرد رادع مكلف ليس إلا. كما يجدر بنا التذكير بأن الإمام الخميني هو الذي أوقف البرنامج عبر فتوى حرم بموجبها السلاح النووي، لكن تلك الخطوة لم تكن إلا واحدة ضمن خطوات أخرى إتخذها في بدايات نجاح ثورته كي يكسب تعاطف الشعوب المكتوية بالديكتاتوريات. والدليل أنه عاد وسمح بتطوير قدرات إيران النووية بالتعاون مع باكستان بعيد إنتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية في عام 1988، تماما مثلما تراجع عن وعوده للشعب الإيراني بنظام ديمقراطي تعددي حر، وإزالة المعتقلات والسجون الرهيبة، وتسريح رجال الاستخبارات، ومنح الأقليات غير الفارسية ضمن الكيان الإيراني حقوقها. وفي عهد خليفته خامنائي، وتحديدا في أعقاب الغزو الامريكي للعراق في عام 2003، إزدادت وتيرة تعاون طهران مع كل من موسكو وبكين في مجال تخصيب اليورانيوم اللازم لصناعة السلاح النووي، وكذلك في معالجة البلوتونيوم الناتج من مفاعلات الطاقة لتحضيره للاستخدام العسكري، الأمر الذي أثار الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعها الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات.
وقتها، كانت إيران في عهدة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي الذي حاول التوصل إلى حل للملف النووي لبلاده مع نظيره الامريكي وقتذاك جورج بوش. غير أن محاولاته لم تجد آذانا صاغية من قبل واشنطون بحجة إنعدام الثقة في النظام الإيراني. وحينما وصل أوباما إلى البيت الأبيض، بضعفه، وسياساته الخارجية المترددة، وعقدته من أسلوب سلفه لجهة إستخدام القوة في الملفات والأزمات الدولية والإقليمية، وجدت فيه طهران الشخص المناسب الذي يمكن المراهنة عليه للخروج من أزماتها المستعصية بشيء من الحذاقة والدهاء والصبر الذي يجيده صانع السجادة الفارسية. وهكذا تم التوصل إلى إتفاقية فيينا التي حققت فيها طهران مكاسب عدة بفضل إستخدام برنامجها النووي كوسيلة إبتزاز للإعتراف بدورها ومكانتها في موازين القوى الإقليمية، أو بعبارة أخرى إعادة تأهيلها كقوة من قوى المجتمع الدولي ذات الثقل الإقتصادي والديموغرافي والتأثير الحضاري، ناهيك عن وزنها العسكري والتقني الذي لن يمسه ضرر كبير. وإذا كانت إتفاقية فيينا تشتمل على نقاط تضمن رقابة دولية على عملية تخصيب اليورانيوم لقطع الطريق على أي مسعى إيراني لتصنيع السلاح النووي، فإن هناك ألف وسيلة ووسيلة من الوسائل التي تجيدها إيران ببراعة للتهرب من الرقابة المذكورة، خصوصا مع وجود ثغرات عديدة في إتفاقية فيينا بإمكان إيران أن تستخدمها لخرق ما وقعت عليه، إذا ما قرأنا الإتفاقية قراءة متأنية.
وقد أتى المحلل “روبرت ساتلوف” المدير التنفيذي لمعهد واشنطون على ذكر تلك الثغرات بالتفصيل في مقال له بصحيفة “نيويورك ديلي تايمز” (14/7/2015). ومنها أن أمام إيران مدة 24 يوما لتأخير أي عملية تفتيش لمنشاة نووية قد تطلبها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن هناك من الأنشطة النووية غير المشروعة التي يمكن للإيرانيين أن يبعدونها عن أنظار المفتشين في غضون إشعار مدته 24 يوما. ومنها أيضا أن عقوبة واحدة ستـُوقع على إيران، سواء كانت مخالفتها للإتفاقية كبيرة أو صغيرة، وهي إحالتها إلى مجلس الأمن الدولي لإعادة فرض العقوبات الدولية عليها. وهنا سوف تبرز مشكلة أخرى هي هل إعادة فرض العقوبات ستشمل الصفقات التي وقعتها طهران مع أطراف أخرى في الفترة ما بين توقيعها على إتفاقية فيينا وخرق بنودها؟ لذا رأينا كيف سارعت الحكومة الإيرانية إلى إبرام صفقات عديدة مع دول مثل روسيا والصين وبعض الشركات والمؤسسات الغربية بمجرد الإنتهاء من حفل التوقيع في العاصمة النمساوية. “وجميع هذه الصفقات مصممة بطريقة تحمي إيران من تأثير إعادة فرض العقوبات المحتملة، مما يضعف بالتالي من تأثير العقوبات”، على حد قول ساتلوف.
بعض المراقبين كتبوا يقولون أن المستفيدة الكبرى من إتفاقية فيينا هي دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بناء على تحليل مفاده أنه لولا هذه الاتفاقية لعانت دول الخليج العربية من رعب دائم، خصوصا مع استحالة وقف البرنامج النووي عبر عمل عسكري قد يؤدي إلى كارثة بيئية وإنسانية كبرى في المنطقة لا مجال لكبحها. ومثل هذا التحليل لئن كان صحيحا، فإن الصحيح أيضا هو أن حالة الخوف وعدم الثقة بين إيران وشريكاتها العربيات في بحيرة الخليج سوف تزداد وتتعمق بوجود جار باركت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي رسميا تحوله إلى قوة إقليمية تحت مبررات سبق لنا دحضها، بل ثبت عدم صمودها.
والمستفيدة الأخرى ـ طبقا لهؤلاء المراقبين ـ هي إسرائيل التي يقولون أن إتفاقية فيينا تضمن بقاءها كدولة نووية وحيدة في منطقة الشرق الأوسط، لكنها تكابر وترفض الإتفاقية في محاولة لإبتزاز الولايات المتحدة.
وبطبيعة الحال فإن الولايات المتحدة تبدو مستفيدة هي الأخرى، لأن الإتفاقية سوف تعطيها مزيدا من المرونة والموارد للتعاطي مع التحديات التي تواجهها في أوروبا والشرق الأقصى، ولاسيما من قبل الصين الصاعدة بقوة والتي من المؤكد أنها سوف تستثمر رفع العقوبات عن طهران لتعزيز موقعها في الشرق الأوسط على نحو ما ستفعله موسكو أيضا. بل أن الصين تبدو في وضع أفضل لجني المكاسب، ولاسيما فيما يتعلق بمشروع إعادة إحياء طريق الحرير، وهو مشروع ذو بعد استراتيجي للصين، وكانت إحدى العقبات التي تواجه تنفيذ شقه المتعلق بالنقل والطاقة هي العقوبات المفروضة على طهران والتي تحررت منها الآن.
لكن الواضح من تتبع مجريات مفاوضات إيران مع مجموعة 5+1، والبنود المعلنة لإتفاقية فيينا أن الرابح الأكبر هو النظام الإيراني، خصوصا وأن الولايات المتحدة الأمريكية قدمت التنازل تلو التنازل للإيرانيين كي تتم الصفقة. وآية ما نقول هي أن أصل المفاوضات في البداية كان يستند إلى تخفيف العقوبات الدولية المفروضة على طهران مقابل رضوخ الأخيرة لإنهاء برنامجها النووي المثير للشك والريبة. لكن بمرور الوقت تنازلت واشنطون أولا عن حق حصول الإيرانيين على المفاعلات النووية بشرط عدم تطوير قدراتهم في مجال تخصيب الوقود النووي، ثم تنازلت ثانيا عن حقهم في التخصيب بشرط أن يكون ذلك ضمن رقابة صارمة، وأخيرا تنازلت لهم عن موعد فرض الرقابة الصارمة بتأجيله إلى مرحلة لاحقة.
ومجمل القول هو أن المفاوضات التي كانت في جوهرها تتعلق بتخفيف العقوبات التجارية والمالية تطورت مع الوقت إلى إتفاقية تحرر طهران من تلك العقوبات وترفع التجميد عن إسماء شخصيات ومؤسسات إيرانية مشبوهه، بل وتذهب أبعد من ذلك بمعنى مساعدة واشنطون وحليفاتها الغربيات لطهران في مجالات الطاقة والتمويل والتكنولوجيا والتجارة لتصبح أكثر نموا، لكن دون أن يقترن هذا بأدنى ضغط على النظام الإيراني لجهة وقف دعمها للجماعات الإرهابية في الخليج والشرق الأوسط، أو تغيير سلوكها الاجرامي السيء في دول المنظومة الخليجية ولبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، أو إجبارها على مراعاة حقوق أقلياتها ومباديء حقوق الإنسان بصفة عامة داخل أراضيها. كل ذلك مقابل نظام مبهم مليء بالثغرات يتيح قدرا من الرصد والتحقق لجهة منع طهران من الوصول إلى عتبة إمتلاك سلاح نووي كامل.
بقي أن نقول أن السياسات الخارجية الإيرانية، ولاسيما تجاه دول الخليج العربية، لن تتغير إلى الأفضل لأنها قائمة على مباديء تصل إلى مرتبة القداسة بسبب صياغتها من قبل الإمام الخميني، وعلى رأس هذه المباديء مبدأ تصدير الثورة إلى دول الجوار والتدخل في شئونها عبر باب الإدعاء بوجود مظالم ضد مواطنيها الشيعة. بل ربما يحدث العكس بفعل نشوة الانتصار التي تشعر بها دوائر صنع القرار في طهران. وبمعنى آخر فإن هناك إحتمال أن توسع طهران نفوذها في الساحات التي لها فيها أنظمة أو جماعات موالية مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين، وذلك على حساب نفوذ الدول المؤثرة في الشرق الأوسط مثل المملكة العربية السعودية التي فقدت الثقة في كل ما يصدر من الجمهورية الإسلامية منذ زمن بعيد.
ولئن كان إلغاء العقوبات الإقتصادية ضد إيران من شأنه إحداث تغيير في شكل الإقتصاد الإيراني، وتوجيهه نحو وجهة جديدة قائمة على جذب الإستثمارات الأجنبية والتنافسية، وبالتالي تحقيق معدلات نمو أكبر، فإن هذا الأمر لن يحدث بين ليلة وضحاها، بل يتطلب سنوات طويلة سوف يئن خلالها الايرانيون من البطالة والعوز اللذين قد يستخدمهما التيار المحافظ كورقتين ضد التيار الإصلاحي لتأكيد أن إتفاقية فيينا لم تأت بالمن والسلوى للشعب الإيراني، وإنها مجرد عملية نصب قادها “الشيطان الأكبر”.
أما فيما يتعلق بتداعيات إتفاقية فيينا على العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية فإن طهران ــ في ظل الصراع الدائر ما بين الجناحين: المحافظ (الذي يرى أن الصراع مع الغرب هو أحد العناصر المكونة لهوية البلاد الثورية والإصلاحي (الذي يرى أن إيران يجب ألا تبقى في حالة عداء دائمة مع الغرب) ــ ستقترب من واشنطون بالقدر الذي يحقق مصالحها فقط كيلا تتهم بموالاة عدوتها السابقة. وبكلام آخر سوف تتبع مع واشنطون سياسات ومواقف إنتقائية لا تصل إلى حالة التنسيق التام في جميع الملفات، وذلك على خلاف ما حلم به أوباما وأركان إدارته.
د. عبدالله المدني
(باحث ومحاضر أكاديمي في العلاقات الدولية والشأن الآسيوي)