لا يبدو أن أمر حلب يمثّل حالة خلاف بين شرق وغرب، بين واشنطن وموسكو، بين سيرجي وجون. فآلة الموت وأبواق الاستنكار تتوازى وتتواكب داخل ورشة مشتركة تعمل على إسقاط المدينة.
يبدو الصمت المحيط بمقتلة حلب وكأنه نتاج إجماع دولي إقليمي على إسقاط المدينة وفق خارطة طريق مرسومة بدقة. ليس في الأمر اجتهاد، ذلك أنه يجري وفق عزف يتطلّب أفعالا يقوم بها نظام دمشق المدعوم عسكريا ودبلوماسيا دون أي محدد أو حرج من قبل موسكو، يقابله ردّ فعل مدين ومستهجن تمارسه بالقول، والقول فقط، عواصم الغرب بقيادة واشنطن. وبنهاية هذا العزف وإيقاعاته يجري تدمير المدينة حيا بعد حي، وحياة بعد حياة.
استخدمت واشنطن تعبير “الوحشية” في وصفها لحدث حلب الراهن. تحدثت برلين عن “الهمجية”، وأطل وزير خارجية لندن ليصرخ “إنها جرائم حرب”. ومع ذلك فالأمر لم يتجاوز حدود الأبجديات وضجيج الكلام، إلا من ردح متبادل بين النساء، تلك في نيويورك، سامنتا باور، ممثلة واشنطن في مجلس الأمن، وتلك في موسكو، ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية. تفرغ الأفواه الرسمية الكبرى من الكلام عند كل مساء، لكن آلة القتل لا تتوقف ولا حتى يصيبها أي ارتباك في الصباح أو المساء.
يظهر للعيان أن الوزيرين الحميمين، سيرجي لافروف الروسي وجون كيري الأميركي، صنعا، بخبث، اتفاقا مفخخا ينفجر وفق ساعة توقيت محددة. ولا بأس أن يتبادل الصديقان ببراعة التهم من على منابر مجلس الأمن، ليكتشف جون أن صديقه سيرجي “يعيش في كوكب آخر”. لا يملك الوزير الروسي إلا الابتسام حبورا من استعانة نظيره بضروب الخيال العلمي لمواراة عجز بلاده عن مواراة فضيحتها في سوريا. بالمحصلة يلعب اللاعبون وفق قاعدة لعب جديدة تتطلب تجاوز عقدة حلب، في الوقت الحالي على الأقل.
في هذا الوقت بالذات تخوض الولايات المتحدة انتخابات الرئاسة من جهة، فيما يودّع الرئيس باراك أوباما ساعة بعد ساعة عهديْن في ضيافة البيت الأبيض. لا تريد الإدارة الأميركية إزعاج الرئيس في تورّط عسكري متعجّل، وهو الذي سعى خلال السنوات الثماني السابقة إلى إخراج بلاده من وحول العالم، ولا تريد الإدارة الديمقراطية للولايات المتحدة إرباك مرشحتها للرئاسة، هيلاري كلينتون، في ما يمكن أن ينزع منها نقاط فوز في انتخابات نوفمبر المقبل.
في هذا الوقت بالذات تتمتع تركيا بفترة سماح دولية نادرة انتزعتها من المجتمع الدولي برمته، بغربه وشرقه، تتيح لها التخلص من الخطر الكردي في شمال سوريا، وتوفر لها، وتحت ذريعة مكافحة الإرهاب، بوجهيه الداعشي والكردي، تواجدا عسكريا ثقيلا يجعل من أنقرة رقما صعبا في معادلات سوريا المقبلة.
في هذا الوقت بالذات تنكفئ دول مجلس التعاون الخليجي نحو معالجة أزمة اقتصادية تسوقها إلى اعتماد برامج إصلاح وتقشف، فما تتركز جهودها الأمنية على الملف اليمني، بما يحيل الميدان السوري متراجعا في سلم المواجهة الخليجية مع إيران. ثم إن في احتكار الحلّ والربط في سوريا من قبل روسيا والولايات المتحدة، يشعر الخليجيون بأن دورهم بات رافدا مواكبا لا يملك مقوّمات المعاندة.
في هذا الوقت بالذات يكتمل المشهد الدولي الإقليمي المتواطئ في تمرير استحقاق حلب بسكوت الجبهات السورية الداخلية البعيدة عن حلب، على نحو يعكس التزام كافة المرجعيات الإقليمية لفصائل المعارضة السورية بخارطة طريق غامضة تتطلب، لسبب ما، إنهاء الحالة الحلبية من أجل العبور باتجاه حلقات لاحقة في مسلسل ما يحاك لسوريا.
لا يبدو أن أمر حلب يمثّل حالة خلاف بين شرق وغرب، بين واشنطن وموسكو، بين سيرجي وجون. فآلة الموت وأبواق الاستنكار تتوازى وتتواكب داخل ورشة مشتركة تعمل على إسقاط المدينة. ما هو مخطط في هذا الإطار مرسوم ربما داخل ثنايا البنود السرية التي لم يفرج عنها اتفاق الهدنة الشهير بين وزيري خارجية موسكو وواشنطن. وما هو مرسوم قد لا يحتمل خروجا عن النص، وإذا ما سال لعاب اللاعبين للخروج عن خطوط الخرائط، فإن تسريبات “رويترز”، المنقولة عن مصادر أميركية مجهولة، عن إمكانية السماح لدول خليجية بتسليح المعارضة بمنظومات دفاع جوية، تهدف إلى التذكير بقواعد اللعبة ولوائح قصاص الضالين. تمسّك أوباما بعقيدته بعدم إدخال بلاده في المستنقع السوري، وقيل إنه وقف يتأمل غرق روسيا في ذلك المستنقع. واشنطن تستلهم رؤاها من ذاكرة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ومن ذاكـرة إدارة جورج بوش في غزو العراق. فلاديمير بوتين لا تفوته هذه الذكريات أيضا، وهو يناور منذ تدخله العسكري المباشر في سوريا منذ أكثر من عام على نحو لا يحيل سوريا إلى أفغانستان جديدة لقواته. المعادلة بسيطة: تكتفي روسيا بتوفير كثافة نيران جديرة بمواهب دولة عظمى تجرّب أسلحة في ميدان متاح، فيما يترك الاستنزاف الميداني في أيدى قوات نظام دمشق وإيران، بحرسها الثوري وتوابعه اللبنانيين والعراقيين والأفغان. فلتلك الأجناس قدرة عجائبية، لا تمتلكها قريحة الدول الكبرى، على ابتلاع السقطات والنكسات والهزائم، وتحويلها بقدرة قادر إلى انتصارات لا تنتهي.
سوريا ليست بلدا مهما بالنسبة إلى الولايات المتحدة وفق قراءة جو بايدن نائب الرئيس الأميركي. ولن تطيح واشنطن بـ“منجزها” مع إيران وباتفاقها النووي الشهير معها من خلال صدام أميركي إيراني في سوريا “غير المفيدة” في استراتيجيات الولايات المتحدة الدولية. واشنطن والغرب، كل الغرب يدين النظام السوري الآيل يوما إلى السقوط سواء استولى على حلب أو لا، لكنه لا يوجّه أي لوم إلى إيران ولا يستنكر أداء ميليشياتها التابعة ولا يعتبر حزب الله فصيلا إرهابيا هذه المرة يجوز عليه ما يجوز على فصائل أخرى وسمها اتفاق الهدنة الأميركي الروسي بتلك التهمة.
لكن سوريا بلد مهم لروسيا، والنظام السوري قاعدة أساس من قواعد المقاربة الروسية الإستراتيجية للملف السوري. تعامل موسكو سوريا، ليس فقط بصفتها الجيو إستراتيجية وما توفّره للبحرية الروسية من إطلالة حيوية على المياه الدافئة، بل ما تتيحه المناسبة الروسية من إطلالة لفلاديمير بوتين على العالم الغربي الذي أراد الالتفاف على ممالكه من بوابة أوكرانيا. وعلى أساس تباين أوزان الأهمية، قد يحق لروسيا التي تحتاج لـ”سوريا المفيدة” بأن تفوز بها، طالما أن هناك من يجاهر بعدم الحاجة إليها ولا تلفته أهمية فيها.
على أن حكاية المأساة السورية خلال الأعوام الخمسة الماضية لا تسمح بالاستسلام لمعطى اللحظة للبناء عليه، ذلك أن أي تفصيل طارئ ناتج عن خلل في فهم المصالح والتوازنات المعقّدة، محليا ودوليا وإقليميا، قد يقلب الطاولة ويعيد الأمر إلى مربعات خلفية. يكفي أن يظهر أن تسريبات “رويترز” حول صواريخ أرض – جو للمعارضة السورية ليست تهويلا أجوف حتى يعود الفرقاء إلى تثبيت عجائبي لهدنة جديدة.