جمهورية أوزبكستان هي ثالثة كبرى دول آسيا الوسطى من حيث المساحة بعد كازاخستان وتركمانستان (نصف مليون كلم مربع تقريبًا)، لكنها الأكبر من حيث عدد السكان (32 مليون نسمة)، والثانية في المنطقة من حيث مجموع الناتج المحلي الإجمالي. هذا البلد ذو الموقع الاستراتيجي والغني بالموارد المعدنية والثاني على مستوى العالم في تصدير القطن ينتظره اليوم مستقبل مجهول من بعد الرحيل المفاجئ لزعيمه «الأوحد» إسلام عبدالغنيفتش كريموف، الذي لم يعرف الأوزبكيون رئيسًا سواه منذ انفصال بلادهم عن الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات.
نعم، لقد أسس كريموف في اوزبكستان نظامًا ديكتاتوريًا منيعًا منذ نحو 27 عامًا، وقمع المعارضة، وكمم أفواه وسائل الإعلام، وخرق نصوص الدستور بالتجديد لنفسه مرارًا، وأرسى ظاهرة عبادة الشخصية Cult of Personality، واتهم مرارًا بتزوير الانتخابات. لكنه من جهة اخرى ترك خلفه بلدًا مستقرًا واقتصادًا ينمو باطراد، وشعبًا ينعم بشيء من الرفاهية. لذا فإن لسان حال أوزبكيين كثر يقول «غياب الحريات ليس ثمنًا باهظًا مقابل الاستقرار والتنمية وسلطة القانون».
وبعبارة أخرى فإن النهج الذي خطه كريموف في إدارة اوزبكستان هو الذي انقذها من الفوضى والقلاقل التي حاولت الجماعات الإرهابية المتطرفة المتسربة من دول الجوار مثل طاجيكستان وأفغانستان زرعها، وهو أيضا الذي حقق لها تنمية إقتصادية مشهودة حسدتها عليها جاراتها في وسط آسيا. ودليلنا على الجزئية الأخيرة هو إشادة صندوق النقد الدولي باستراتيجية التنمية والتجديد التي تبناها نظام كريموف، ثم بالطريقة الصحيحة التي تعامل بها النظام مع الأزمة المالية العالمية ما بين 2009 و2012، الأمر الذي زاد معه حجم الاقتصاد الوطني بنسبة 40 بالمائة وحجم الناتج المحلي بنسبة 7 بالمائة، إضافة إلى محافظة البلاد على فائض في الميزانية ودين عام منخفض وسعر عملة مستقر، وسياسات مصرفية وإئتمانية رشيدة. إلى ذلك فقد شهد عهد كريموف تنفيذ العديد من مشاريع النقل والمواصلات الحديثة، وتوسيع طاقات الانتاج في صناعات الحديد والصلب والطاقة والسيارات والجرارات والطائرات والالكترونيات ومواد البناء والصناعات الكيماوية والدوائية والغذائية.
ومما يحسب أيضا للديكتاتور الراحل أنه أجاد بمهارة وحرفية استثمار موقع بلاده الجيوسياسي، والتنافس الامريكي الروسي الصيني في منطقة آسيا الوسطى من أجل الاستمرار في السلطة والتهرب من الضغوط الغربية حول حقوق الانسان والديمقراطية. ويتجلى ذلك في سياساته الخارجية ومواقفه المتغيرة تجاه اللاعبين الكبار في واشنطون وموسكو وبكين. فهو لئن سارع للتحالف مع واشنطون في حملة الأخيرة ضد الإرهاب بعيد هجمات 11 سبتمبر 2001 عبر منحها قاعدة جوية على الأراضي الأوزبكية (قاعدة خان آباد)، فإنه أمر باغلاق تلك القاعدة في عام 2005 واتهم واشنطون بالتدخل في شئون بلاده بعد اصطدام قوات الأمن الأوزبكية بالمتظاهرين في «أنديجان» ومطالبة الإمريكيين له بإجراء إصلاحات سياسية. كما أن ارتباطه بعلاقات جيدة مع موسكو لئن ساهمت في اسقاط الأخيرة لديونها المستحقة على طشقند بمبلغ 865 مليون دولار في عام 2004، فإنه لم يمنعه من إبقاء بلاده خارج التجمعات التي تشكلت من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق بقيادة روسية مثل «منظمة معاهدة الأمن الجماعي». ومن جهة أخرى استغل تنافس واشنطون وبكين في آسيا الوسطى معطوفا على هواجس بكين من إرهاب الانفصاليين الإيغور، الذين يوجد الكثير منهم في اوزبكستان، في تعزيز موقع بلاده كشريك تجاري رئيسي للصين وحليف لها في محاربة الارهاب العابر للحدود. بل أن الصينيين وجدوا فيه أيضا حليفًا يردد خطابًا مشابها لخطابهم إلى الغرب حول مسائل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، خصوصًا بعدما نقل عنه قبل وفاته تصريحا قال فيه للغرب: «لا تتدخلوا في شؤوننا الداخلية تحت ذريعة دعم الحرية والديمقراطية، ولا توجهوننا إلى ما يجب علينا عمله او إلى من يجب أن نصادق». وبعيدًا عن علاقاته مع الأقطاب العالمية الكبيرة عرف كريموف كيف ينسج بسياساته الخارجية المستقلة روابط قوية مع معظم الدول الغنية، وهو ما ساعد اوزبكستان على التحول إلى دولة جاذبة للاستثمارات من المؤسسات المالية العالمية والصين وكوريا الجنوبية واليابان ودول الخليج العربية، بدليل تنفيذ مشاريع استثمارية بلغت قيمتها الاجمالية 3 مليارات دولار في عام 2010 وحده.
لكل هذا لم يكن غريبا ظهور الكثيرين من الاوزبك على شاشات التلفزة وهم يجهشون بالبكاء بمجرد سماعهم نبأ رحيل رئيسهم «الديكتاتور». أما من لم يبك منهم فقد بدا خائفا من المجهول، خصوصا في ظل عدم تسمية كريموف لشخص يخلفه، واحتمال أن تنتهز «الحركة الإسلامية الأوزبكية» الإرهابية، الفرصة لتهديد استقرار البلاد بعدما قويت شوكتها بتحالفها مع دواعش سوريا والعراق.
فلبعض الوقت اعتقد الكثيرون أن ابنة كريموف الكبرى «غولنار» هي التي سترثه في الحكم، لكن الأخيرة تورطت في قضايا فساد واتجار بالبشر اضطر معها والدها إلى إبعادها عن المشهد، فقامت بالتشهير بنظامه ووصفه بالستالينية، وهو ما أودى بها إلى الإقامة الجبرية. أما ابنته الصغرى «لولا» التي تتولى حاليًا تمثيل بلادها لدى منظمة اليونيسكو في باريس فقد أعربت مرارًا عن لا اكتراثها بالمناصب العامة وتفضيلها التركيز على أسرتها. ورئيس مجلس الشيوخ «نعمة الله يولداشيف» الذي يتولى الحكم الآن مؤقتًا كما ينص الدستور فهو شخصية غير معروفة ولا نفوذ لها. وعليه فإن المراقبين يحصرون خلافة كريموف في ثلاث شخصيات رئيسية: الأولى هي «شوكت ميرزاييف رئيس الوزراء منذ عام 2003 والذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع أسرة الرئيس الراحل ومسؤولي جهاز الأمن، ناهيك عن نفوذه في منطقة سمرقند (مسقط رأس كريموف) التي كان حاكمًا لها في الماضي، وشهرته الاقتصادية المتأتية من مسؤوليته عن قطاع إنتاج القطن الاستراتيجي، غير أن مشكلة هذه الشخصية تكمن في احتمال مقاطعة المجتمع الدولي له بسبب الشبهات التي تحوم حوله لجهة إجبار من ليسوا في سن العمل للإشتغال في مزارع القطن والصناعات المرتبطة بها. والشخصية الثانية هي «رستم عظيموف» نائب رئيس الوزراء ووزير المالية الذي يعتبر هو الآخر مقربًا من عائلة كريموف ومتهمًا بالفساد والاستبداد، لكنه صاحب ميول سياسية أكثر قربًا للغرب. وأخيرًا «رستم اينوياتوف» الذي يترأس جهاز الأمن الأوزبكي منذ عشرين عامًا وعرف عنه القيام بأدوار هامة على صعيد حماية نظام كريموف من خلال قمع مناوئيه بقسوة على نحو ما حدث في مظاهرات شرق أنديجان عام 2005.