لم تعد المرأة الإماراتية هي تلك المرأة التي كنا نراها قديمًا في استطلاعات مجلة «العربي» الكويتية وهي ترتدي البرقع التقليدي وتحلب الماعز أو تجلب الحطب لتجهيز وجبات الطعام لبعلها وأولادها. فمنذ استقلال وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة في فجر الثاني من ديسمبر 1971 راحت تكسر القيود وتنفض عن نفسها غبار السنوات التي جعلتها حبيسة المنزل، بل راحت تسابق الزمن لتصل إلى ما وصلت إليه شقيقاتها في دول الخليج الأخرى، ولتترك بصمة عطاء في وجه وطنها المشرق، وذلك بدعم سخي من قبل باني الدولة ومؤسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي جعل تعليم وتأهيل المرأة من أهم إستراتيجيات بناء الدولة، وثقة لا حدود لها من قبل عقيلته «أم الإمارات» سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام «الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية» رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة.
وهكذا لم تمضِ سوى سنوات قليلة لا تحسب في عمر الأوطان والشعوب إلا والفتاة الإماراتية حاضرة في كل المواقع، تساهم بعلمها وخبرتها في نهضة بلدها جنبًا إلى جنب مع شقيقها الرجل. فرأيناها وزيرة وبرلمانية ودبلوماسية وسيدة أعمال وطبيبة ومهندسة وميكانيكية ومعلمة وأديبة وإعلامية وقاضية ومصممة أزياء وجندية وشرطية ورافعة أثقال وقائدة طائرة وسائقة مترو.. الخ الخ. بل خصص لها يوم تحتفل به هو «يوم المرأة الإماراتية» الذي يصادف الثامن والعشرين من أغسطس من كل عام. ومما أتذكره في هذا السياق أن الاتحاد النسائي العام في دولة الإمارات أطلق في هذا اليوم قبل عدة سنوات مشروع «اعرفي حقوقك» بهدف توعية المرأة الإماراتية بالقوانين والتشريعات المحلية والاتحادية، وتعريفها بحقوقها المكفولة دستوريًا، وحثها على الدفاع عن مكتساباتها، ناهيك عن تثقيفها سياسيًا كي تخوض باقتدار تجربة البلاد البرلمانية إلى جانب شقيقها المواطن.
واليوم تفتخر الإمارات بابنتها الموهوبة «أماني الحوسني» التي صار اسمها مرادفًا في وسائل الإعلام لطموحات وطنها في اقتحام المجال النووي. فما قصة هذه المرأة المفخرة التي كرمها سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة «رئيس الوزراء» حاكم دبي ضمن «أوائل الإمارات» في العيد الوطني الثالث والأربعين لبلادها في عام 2014؟ وكيف استطاعت أن توائم ما بين متطلبات عملها ودراستها وواجباتها كأم لطفلين؟
طبقًا لما نشرته عنها الصحافة الإماراتية، فإن الحوسني كانت شغوفة جدًا منذ نعومة أظفارها بعلمي الكيمياء والفيزياء ومعهما الرياضيات التي هي ركيزة وأس هذين العلمين وغيرهما من العلوم. فقد سكنها مثلاً فضول معرفي حول الإلكترونات السالبة والبروتونات الموجبة والنيوترونات المتعادلة والذرة والنواة وتوليد الطاقة من الأخيرة عن طريق الإنشطار أو الاندماج النووي. كما داعبت مخيلتها فكرة توليد طاقة نظيفة خالية من الانبعاثات الكربونية. لذا كان طموحها هو أن تدرس الهندسة الكيميائية حينما تكبر! وتمر الأيام والسنون، وتكمل الحوسني مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وتصل إلى يوم القرار المصيري الذي سيحدد مستقبلها المهني.
تنتمي أماني الحوسني، كما يدل لقبها إلى قبيلة الحواسنة التي يسكن أغلب أبنائها إمارة أبوظبي تليها البحرين ثم الكويت فقطر. وهناك منهم من يسكن سلطنة عمان. ويعتبر الحواسنة من الجبور من بني خالد الذين كانت لهم قديمًا الدولة الجبرية التي امتدت أراضيها من الأحساء حتى سواحل عمان، بل توسعت إلى بلاد فارس حيث أقام بعض الحواسنة في «كنكون» والبعض الآخر في «كاغبند» و«عينات» و«جزيرة شعيب».
ويقول البريطاني إدوارد هندرسون في كتابه «ذكريات الأيام الأولى في دولة الإمارات وسلطنة عمان» إن قبيلة الحواسن ذات الأفخاذ الكثيرة لعبت قديمًا دور الوساطة بين شيوخ مسقط وشيوخ أبوظبي، كما كان لهم دور في تثبيت ركائز النفوذ العماني في زنجبار وممباسا وجنوب إيران، علمًا بأن الحواسنة في عمان والإمارات شكلوا ما أطلق عليه «حلف الحواسنة» من قبائل عدة مثل الزعابي، الدرمكي، الكثيري، العميري، المكتومي، بني سعيد، الرفاعي، وغيرها. أما تسميتهم بهذا الاسم فنسبة لحوسن بن سدوس السعدي الطائي الذي سموه كذلك لحسن طلته.
ومن حسن حظ أماني الحوسني أنها ولدت في إمارة أبوظبي لأسرة كان ربها يعمل ضابطًا في القوات المسلحة، وربتها تعمل مربية للأجيال، لذا فإن بيئتها العائلية كانت داعمة لها ومتفهمة لطموحاتها وطموحات إخوتها الخمسة.
لم يكن التردد يومًا من طبعها. لذا نراها تقرر فورًا بعد نيلها شهادة الثانوية العامة في عام 2004 أن تلتحق بقسم الهندسة الكيميائية في جامعة الإمارات بمدينة العين التي تخرجت منها في عام 2009 بتفوق. خطوتها التالية كانت الالتحاق في ذات السنة بصناعة النفط من خلال شركة أبوظبي للعمليات البترولية البرية المحدودة (إدكو)، التي عملت بها لمدة سنتين كمهندسة معالجة. غير أنها سرعان ما خطت لنفسها طريقًا آخر بعدما سمعت سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي العهد / نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة / رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي وهو يقول «إن النفط تاريخ» أي أن المستقبل هو لشيء آخر. ولم يكن هذا الشيء الآخر سوى الطاقة النووية التي تعتبر دولة الإمارات السباقة لجهة بناء أولى محطاتها على مستوى المنطقة العربية.
وقتها أنشأت الإمارات «مؤسسة الإمارات للطاقة النووية» بهدف توفير ما يصل إلى ربع احتياجات البلاد من الطاقة الكهربائية التي يزداد الطلب عليها محليًا بمعدل 9 بالمائة، كما أطلقت «برنامج رواد الطاقة» بهدف تأهيل الكوادر المتخصصة لإدارة المؤسسة المذكورة.
وهنا أيضًا كررت الحوسني ما فعلته من قبل، فلم تضيع وقتها واتخذت القرار السليم في عام 2012 بالانضمام إلى «برنامج رواد الطاقة» الذي أعطاها منحة للالتحاق بجامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا من أجل إكمال دراساتها العليا، حيث تخرجت حاملة درجة الماجستير في الهندسة النووية (تخصص تصميم المفاعلات وضمان سلامتها)، لتدخل بذلك التاريخ كأول مهندسة نووية إماراتية وهي لم تتعدَ سن الخامسة والعشرين. وأثناء إعدادها للماجستير عززت الحوسني حصيلتها العلمية عبر القيام بزيارة عدد من أهم الجامعات التي تدرس الهندسة النووية في كوريا الجنوبية، وتفقدت هناك عددًا من المفاعلات والمختبرات النووية الكورية ومصانع الوقود النووي بهدف الاطلاع على أحدث أساليب التكنولوجيا النووية، كما حصلت على دورات في تحليل الاشعاع النووي.
وقد أهلها كل هذا، في أعقاب حصولها على درجة الماجستير، لاستلام وظيفة نائب مدير مركز محاكاة الأنظمة الرئيسية في موقع مشروع الطاقة النووية السلمي لدولة الإمارات في «براكة» الواقعة في المنطقة الغربية لأبوظبي، على بعد نحو 53 كيلومتر إلى الجنوب الغربي من مدينة الرويس. ومن خلال هذه الوظيفة تقوم الحوسني بتدريب وبناء كوادر مؤسسة الإمارات للطاقة النووية، كما تساهم بعلمها في تجهيز أول مركز للأجهزة المحاكية لغرفة التحكم في تشغيل المفاعل النووي الذي يتوقع الانتهاء من بنائه في عام 2017.
ومن أجل أن تؤدي مهامها على أكمل وجه، فإن الحوسني تبدأ رحلة عملها اليومي منذ الصباح الباكر عند الساعة الخامسة والنصف، حيث تنطلق من سكنها في مدينة أبوظبي إلى براكة في رحلة يومية تزيد على الساعتين. وخلال هاتين الساعتين تنتهز الفرصة لانجاز بعض المهام العاجلة بالهاتف أو الرد على الرسائل لأنها تعلمت أن استثمار كل دقيقة من الوقت كان على الدوام سر نجاح الأمم الحية في بلوغ المراتب العليا.
وتقر الحوسني بأنه من الصعوبة بمكان المواءمة ما بين متطلبات العمل والأمومة، لكنها تشكر الله وتحمده أنه وهبها زوجًا يتفهم مسؤوليات عملها، بل ويشجعها على المضي قدمًا فيها. ومن جهة أخرى تقول بتواضع أن العمل في مجال الذرة والقيام بالواجبات الأسرية بالتزامن لا يستدعي وجود إمرأة خارقة، بل «يكفي أن يكون لديها شغف بالعلم وحب للعمل». أما نصيحتها لمواطنيها ومواطناتها فقد لخصتها في الكلمات التالية «لا تسمح لشيء أن يحبطك، ويحد من أحلامك وطموحاتك.. أنت وحدك.. بيديك وفكرك تستطيع رسم مستقبلك».
حينما سألتها صحيفة «الخليج» (8/8/2014) الصادرة من الشارقة في حوار أجرته معها عن مثلها الأعلى على الصعيدين العلمي والإجتماعي أجابت أن مثلها الأعلى محليًا سيدات ثلاثة استلهمت منهن المثابرة والإخلاص في خدمة الوطن وهن أولاً: الشيخة لبنى بنت خالد القاسمي وزيرة التنمية والتعاون الدولي، وهي أول سيدة تقلدت منصبًا وزاريًا في دولة الإمارات وذلك في عام 2004 حينما عينت وزيرة للاقتصاد والتخطيط، علمًا بأنها حاصلة على درجة البكالوريوس في علم الحاسوب من جامعة تشيكو الأمريكية في كاليفورنيا وماجستير إدارة الأعمال من جامعة الشارقة، إضافة إلى الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة إكستر البريطانية والدكتوراه الفخرية في العلوم من جامعة تشيكو والدكتوراه الفخرية في الاقتصاد من جامعة هانكوك الكورية الجنوبية.
وثانيًا: الوزيرة ريم إبراهيم الهاشمي وزيرة الدولة في حكومة الإمارات منذ عام 2008 وهي خريجة جامعتي تافس وهارفارد العريقتين في بوسطون، وتحمل درجة البكالوريوس في العلاقات الدولية، وتجيد الفرنسية بطلاقة. وثالثًا: الدكتورة نوال الحوسني الحاصلة على بكالوريوس الهندسة من جامعة الإمارات ودرجة الدكتوراه من جامعة نيوكاسل البريطانية، وهي تشغل الآن منصب مديرة إدارة الاستدامة في شركة «مصدر» للطاقة الشمسية، حيث تشرف على الفريق المسؤول عن تطوير معايير وسياسات الاستدامة بالشركة إضافة إلى الرقابة والتدقيق، علمًا بأنها تولت من قبل مهامًا رفيعة فقد كانت مديرة لجائزة الشيخ زايد لطاقة المستقبل، ورئيسة قسم التصميم والدراسات الهندسية في شرطة أبوظبي، وأول امرأة تتولى منصب نائب قائد شرطة أبوظبي.
هذا على الصعيد المحلي. أما على الصعيد العالمي فقد أخبرتنا الحوسني أن مثلها الأعلى والقدوة التي تسعى للوصول إلى عظمة إنجازاتها هي عالمة الفيزياء النمساوية المولد السويدية الجنسية «ليز ميتنرLise Meitner». ويبدو أن الحوسني، التي تعمل اليوم على إكمال تعليمها بهدف الحصول على درجة الدكتوراه في العلوم النووية، لم تختر هذه الشخصية الرائدة اعتباطًا.
فمن يقرأ سيرة العالمة ميتنر سيكتشف الكم الهائل من التحديات التي واجهتها في حياتها وسط ظروف الحربين العالميتين الاولى والثانية المدمرة، وتربص النازية بأسرتها، وآلام الهجرة والتشرد في ألمانيا وهولندا وبريطانيا والدانمارك والسويد، والمعاناة النفسية لمشاهد الجرحى والقتلى والمشردين، وعذابات البحث عن القوت اليومي، دعك من محاربة بعض العلماء الذكور لفكرة عمل المرأة في مجال العلوم على نحو ما كان يتبناه العالم السويدي «كارل مان سيغباهن»، والعالم الألماني «ماكس بلانك» الذي كان لا يسمح للنساء بمتابعة محاضراته.
لكن ميتنر استطاعت بالعزيمة والإصرار أن تتجاوز كل هذه التحديات وغيرها وتصبح عضوًا فاعلاً في الفريق الذي اكتشف الانشطار النووي، وهو إنجاز تلقى عنه زميلها على مدى 30 سنة الكيميائي الالماني «أوتو هان» جائزة نوبل لعام 1944، بينما استبعدت هي من الجائزة بسبب آرائها السلبية حول هذا المنجز، على الرغم من امتداح الكثيرين من علماء عصرها لها كأفضل مثال للمرأة صاحبة الانجازات العلمية.
وفي ردها على سؤال من الصحيفة المذكورة عن الاكتشافات التي ساهمت بها في خدمة مجتمعها قالت الحوسني أنها تعتبروجودها ضمن قوى عاملة متميزة بأعلى معايير الكفاءة والمهنية العالمية، وكونها جزءا من فريق العمل في محاكاة قلب المفاعل والأنظمة الأخرى، ومساهمة رئيسية في تجهيز أول مركز للأجهزة المحاكية لغرفة التحكم الهادفة إلى تدريب مشغلي المفاعل النووي في موقع براكة، وقيامها بإجراء بعض الأبحاث في مجال تحليل سلامة المفاعل باستخدام برامج متخصصة في محاكاة الفيزياء النووية وهيدروليك الحرارة (ثيرمال هيدروليكس)، هو من أكبر إنجازاتها على الصعيد المهني. وأضافت شارحة: «إن مركز تدريب أجهزة الغرفة المحاكية لغرفة التحكم الرئيسية في المفاعل النووي، والذي تعتبر الأحدث من نوعه على مستوى الشرق الأوسط، ستساهم في تدريب الكفاءات الإماراتية وتأهيلهم لتشغيل المفاعل النووي بأعلى معايير الأمن والسلامة».
والجدير بالذكر أن مؤسسة الإمارات للطاقة النووية يعمل بها 1400 موظف، 60 بالمائة منهم إماراتيون، ومن بين هؤلاء تشكل النساء نسبة تصل إلى نحو 23 بالمائة، وهذه مفخرة أخرى لدولة الإمارات، ذلك أن هذا المعدل يفوق المعدل العالمي البالغ 20 بالمائة من النساء اللواتي يعملن في مثل هذه المهنة على مستوى العالم. لذا نجد الحوسني مبتهجة وهي تتحدث عن تزايد أعداد مواطناتها الملتحقات بالدورات التدريبية والمنح الدراسية الهادفة إلى تشكيل جيل من الشباب الواعد المنخرط في المجالات النووية ذات الاستخدامات السلمية.
وأخيرًا لابد من الإشارة إلى أن الحوسني عضو في مجلس علماء الإمارات. وهذا المجلس اعتمدت الحكومة الاتحادية إنشاءه في فبراير 2016 برئاسة قائد الفريق العلمي لمشروع الإمارات لاستكشاف المريخ ابنة دبي سارة يوسف أميري (خريجة هندسة الحاسب الآلي من جامعة الشارقة الأمريكية)، وهو يهدف إلى خلق بيئة محفزة على الابتكار والبحث العلمي وبناء جيل من العلماء الاماراتيين في شتى المجالات العلمية وتقديم المشورة لمجلس الوزراء حول العلوم المستقبلية والابحاث والتخصصات المتقدمة والشراكات الاستراتيجية مع المؤسسات العلمية المحلية والأجنبية، علما بأنه يضم في عضويته إضافة إلى الحوسني نخبة من ألمع علماء وأكاديميي الإمارات مثل:
أحمد حسين الحارثي (مخترع آلية إنتاج الوقود الحيوي من الطحالب)، البروفيسور أحمد مراد الرئيسي (عالم في مجال الجيولوجيا المائية ومصادر المياه ونظائرها)، الدكتور فيصل عبدالله المرزوقي (مخترع تقنية تنقية المياه بالاعتماد على تكنولوجيات النانو)، الدكتور علي عبدالله النقبي (مخترع الكبد الصناعي ذي الثلاثة غرف)، محمد مطر الشامسي (عالم وخبير الروبوت)، الدكتور غالب علي البريكي (عالم التغذية)، الدكتورة حبيبة الصفار (عالمة وخبيرة العلاج الجيني)، الدكتور محمد عبدالعزيز سلطان العلماء (استشاري جراحة المخ والأعصاب وأول جراح زرع جهاز مراقبة وقياس ضغط المخ عبر مستقبل لاسلكي)، والدكتور عارف الحمادي(بروفسور هندسة الاتصالات والكهرباء والالكترونيات).
يقول جميل صدقي الزهاوي:
إذا ما أقام العلم راية أمة
فليس لها حتى القيامة ناكس
تنام بأمن أمة ملء جفنها
لها العلم إن لم يسهر السيف حارس